في عام 2015، وبعد طول انتظار صدر قانون سلامة الغذاء اللبناني وجرى العمل به فور نشره في الجريدة الرسمية. وأبرز ما تضمنه إنشاء “الهيئة اللبنانية لسلامة الغذاء” لحصر مهمة مراقبة الغذاء بها مع مراعاة المعاهدات الدولية في هذا الإطار. بعد صدور القانون، كان من المفترض ضبط الأمور بشكل يسمح للمواطن بالحصول على غذاء آمن خال من الفساد أو التلاعب الذي يمكن أن يضر بسلامته. على الرغم من ذلك بدأ التفلت في هذا المجال يتزايد.
كلفة الجودة غالية
كثرت الأخبار في الآونة الأخيرة المتعلقة بإقفال ملحمة أو فرن أو محل تجاري لعدم استيفاء الشروط المطلوبة. قبل أن يظهر تحليل العينات المأخوذة من هذه الأماكن، بعد المعاينة، أنها غير مطابقة للمواصفات.
قد لا تكون أزمة الفساد الغذائي في لبنان جديدة، لكن يبدو واضحاً أن الأزمات المتلاحقة بالبلاد أسهمت في تفاقمها. وكأن جودة الغذاء باتت تكلف المواطن غالياً، فيما يحاول البعض مضاعفة الأرباح مع استغلالهم الوضع الاقتصادي الصعب. فقد تغيب الشروط السليمة للتخزين أو التبريد، مما يسبب تلف البضائع قبل تقديمها للمواطن من دون رادع مع استهتار واضح بسلامته، فيكون عرضة للتسمم الغذائي أو لمشكلات صحية أكثر خطورة بعد.
في ظل التفلت الحاصل، تطرح علامات استفهام كثيرة حول الأخطار التي يمكن أن يتعرض لها المواطن في مثل هذه الحالات وحول الدور الذي تلعبه الأجهزة الرقابية للوقوف في وجه المعتدين على صحته، خصوصاً أن العقوبات الرادعة لا تبدو موجودة بما يكفي.
أما قانون سلامة الغذاء فموجود على الورق فقط، إذ تؤكد الأخبار الكثيرة التي يتم تداولها في الفترة الأخيرة أن الفساد الغذائي يجتاح لبنان، فقد تعددت الملفات التي جعلت الأمن الغذائي يتصدر المشهد، وقد عززت قلق المواطنين على صحتهم وسلامتهم من الأطعمة غير الصالحة التي تباع في الأسواق وهي غير مطابقة للمواصفات.
فبعد المقاطع المصورة التي أظهرت المخبوزات الفاسدة والمتعفنة في أفران، وتلك التي تحتوي على الحشرات التي تم التداول فيها، أخيراً، إضافة إلى شحنة الأرز المسرطن التي وزعت في الأسواق، وباخرة القمح المتعفن وغيرها من الملفات المتعلقة بمنتجات منتهية الصلاحية وهي غير صالحة للأكل، ومنها ما يتعلق بغذاء الأطفال، تبرز اليوم قضيتان جديدتان أولاهما قضية الطحين المنتهي الصلاحية العائد إلى أحد أشهر الأفران في لبنان، والثانية قضية “النسكافيه” (القهوة سريعة التحضير) المغشوش، لتؤكدا مجدداً أن الأمن الغذائي معدوم في لبنان.
أطنان من الطحين الفساد
في حديث مع “اندبندنت عربية”، أكد مصدر مسؤول في وزارة الاقتصاد أن المعاينة التي أجرتها دورية تابعة للوزارة، أظهرت تخزين المستودع المعني ما لا يقل عن 110 أطنان من الطحين الفاسد والمنتهي الصلاحية منذ أكثر من أسبوعين، مما فتح باب التساؤلات حول الدوافع من وراء هذا التخزين: فهل رفع الدعم عن الطحين في المرحلة المقبلة السبب وراء ذلك للاستفادة من الطحين المخزن على حساب صحة المواطن أو ثمة أسباب أخرى؟
الوزارة ليست متأكدة إذا كان جزءاً من هذا الطحين قد استخدم سابقاً في منتجات سلسلة الأفران المعنية التي وزعت في الأسواق. وفي كل الحالات يعد الأمر استهتاراً بصحة المواطن لأسباب ربحية وانتهاكاً لسلامة الغذاء الذي يعد من أبسط الحقوق التي يجب أن يتمتع بها المواطن.
ضمن التحقيقات، أُخذت عينات من كل فروع سلسلة الأفران الشهيرة المعنية للتأكد ما إذا كانت المشكلة في فرع منطقة البقاع شرق لبنان دون سواه، أو ما إذا كانت المخالفة تعني سلسلة الأفران كاملة بكل فروعها، على أن تصدر نتائج التحليلات للعينات، الخميس المقبل. علماً أن الفرع المعني حائز على وكالة “فرانشيز” باسم هذه الأفران. على رغم من ذلك، هذا لا يلغي مسؤولية إدارة سلسلة الأفران هذه، لاعتبار أن الطحين المدعوم يصل باسمها في كل الحالات، حتى في الفروع الحائزة على “فرانشيز”. هذا، ويبدو أنه ثمة مشكلات عديدة في هذا الملف، كما يؤكد المصدر عينه، مشيراً إلى وجود علامات استفهام كثيرة حوله.
أما في ما يتعلق بملف “النسكافيه” المغشوش، فقد انتهت الإجراءات وتم ضبط هذه الكميات الفاسدة والمنتهية الصلاحية، وتم تشميع المستودع المعني بتصنيعه. وكانت الدوريات التي يقوم بها مندوبو وزارة الاقتصاد قد عادت وتكثفت في الفترة الأخيرة بعد توقف الإضرابات، وتحصل بمعدل 40 أو 50 يومياً على أساس شكاوى على الخط الساخن أو عبر موقع الوزارة أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو على تطبيق الوزارة. كما يمكن أن تظهر المعاينات الدورية وجود مخالفات وإن لم تستند إلى شكاوى، فيتبين فيها وجود انتهاكات كثيرة لسلامة الغذاء. مع الإشارة إلى أن ما يمس صحة المواطن من اختصاص وزارة الصحة العامة، إنما في الوقت نفسه تعد وزارة الاقتصاد معنية بكل ما يتعلق بحماية صحة المستهلك أياً كانت طبيعته.
تسمم في المدى القصير أو البعيد
في المقابل، أشارت مديرة الوقاية الصحية في وزارة الصحة العامة جويس حداد إلى وجود نقص هائل في مختلف الوزارات ومن ضمنها وزارة الصحة العامة في عدد المراقبين بسبب انخفاض الأجور. في الوقت نفسه، وكما في كل الأزمات، تزايدت أعداد المستودعات غير القانونية وغير المرخصة بشكل هائل، وقد تخزن بضائع فاسدة أو منتهية الصلاحية. فهذه من الظواهر الشائعة في الأزمات، إذ يزيد الفساد والتهريب والانتهاكات.
وتقول حداد “تعمل الوزارة جاهدة في مجال سلامة الغذاء. فكل ما يمكن أن يسبب الأذى لصحة المواطن في المدى البعيد أو القصير، من مسؤوليات وزارة الصحة التي تحرص على أخذ عينات مع متابعة لمصدرها وإجراء التحليلات. أما قانون سلامة الغذاء الذي صدر في عام 2015، فلا مراسيم تطبيقية ولم تتشكل الهيئة المسؤولة عن تطبيقه ولم يكن من الممكن إحراز أي تقدم في هذا المجال”.
تجري وزارة الصحة كشوفات دورية على المؤسسة المصنعة المرخصة، ومن مسؤولياتها الاهتمام بالوضع الصحي للعمال والتأكد من عدم إصابتهم بأمراض قد تنتقل عبر الغذاء، فتصدر لهم شهادات صحية على هذا الأساس. وفي حال إصابة عامل بمرض قد ينتقل عبر الغذاء، تتخذ الإجراءات اللازمة لحماية المواطن. ولوزارة الصحة دور رقابي عند استيراد الأغذية إذا كان المستودع مرخصاً، لكنها لا تجري كشوفات دورية على المؤسسات والمستودعات غير المرخصة.
نوعان من التسمم الغذائي
بحسب ما توضحه حداد، يمكن التعرض إلى نوعين من التسمم الغذائي. فإما أن يحصل التسمم على مدى القريب، فتظهر أعراضه خلال ساعتين أو ثلاث ساعات من تناول الغذاء كالإسهال والتقيؤ وغيرهما من الاضطرابات في الجهاز الهضمي، ويكون سببه جرثومياً، وفي هذه الحالة، يكون التسمم أشد خطورة بشكل خاص على من يعانون ضعفاً في المناعة ومرضى السرطان والأطفال والحوامل، إذ يمكن أن تتعرض الحامل إلى الإجهاض في حال التقاط جرثومة “السالمونيلا” مثلاً. كما يمكن أن يحصل التسمم الغذائي على المدى البعيد على أثر تراكم مواد كيماوية معينة ومعادن ثقيلة وسموم في الجسم، مما يسهم في الإصابة بأنواع معينة من السرطان، في حال الحصول على هذه المواد خلال فترة مطولة وبكميات معينة.
في الوقت نفسه، تنصح حداد باستبعاد فكرة البرد أو المفاهيم المشابهة عند ظهور علامات التسمم. فحكماً، عند تناول مجموعة من الأشخاص طعاماً معيناً، إذا ظهرت أعراض هي نفسها لدى الكل، من الطبيعي اعتبار ذلك تسمماً غذائياً. أما في ما يتعلق بالطحين الفاسد والمخزن بشروط غير مناسبة، فمن الممكن في حال تم استخدامه في المنتجات، أن يؤدي إلى تكدس فطريات تعزز من المواد الكيماوية التي تؤثر على المدى البعيد في الجسم عبر زيادة خطر الإصابة بالسرطان. مع الإشارة إلى أن مذاق الغذاء قد لا يختلف دائماً حتى يتمكن المواطن من تمييز الأغذية الفاسدة، إلا عند وجود بكتيريا معينة تؤثر على المذاق.