تُعَدّ زيارة البابا إلى لبنان محطةً تاريخية واستثنائية، لما تحمله من أبعاد روحية وسياسية في بلد يشكّل المسيحيون فيه عنصرًا تأسيسيًا لهويته وتوازنه الوطني. وفي اللحظة التي ينتظر فيها اللبنانيون أن تتحوّل هذه الزيارة إلى مساحة لقاء وتواصل شامل مع مختلف المكوّنات المسيحية والقيادات التمثيلية الوازنة، برز قرار بروتوكولي أثار جدلًا واسعًا: تغييب الدكتور سمير جعجع عن مراسم الاستقبال واللقاء بقداسة البابا، بحجّة أن البروتوكول لا يسمح بذلك.
ومثل هذا التبرير لا يصمد أمام أبسط المعايير الواقعية. فالبروتوكول ليس نصًا منزّلًا، بقدر ما هو انعكاس للواقع السياسي والتمثيلي. ولعلّ أكثر ما يفضح هشاشة هذا الادّعاء أنّ جعجع نفسه دُعي في زمن سابق لاستقبال البابا بنديكتوس السادس عشر في عهد الرئيس ميشال سليمان، حين كان الدور التمثيلي المسيحي حاضرًا كمعيار أساسي في إدارة المناسبة. ما يعني أنّ البروتوكول يُفعَّل وفق ما ينسجم مع الحقائق السياسية، لا وفق ما يخدم حسابات ضيقة أو توجّهات إقصائية.
إنّ تجاهل لقاء بين رأس الكنيسة الكاثوليكية وأكبر ممثل سياسي للمسيحيين في لبنان يُعَدّ قصورًا سياسيًا قبل أن يكون خطأً بروتوكوليًا. فالدكتور جعجع، بصفته رئيسًا لأكبر حزب مسيحي وأكبر كتلة نيابية، يُجسِّد إرادة شريحة عريضة من المسيحيين الذين يرون في حضوره ضمانة لاستمرار الصوت المسيحي في المعادلة الوطنية. وبالتالي، حرمان البابا من لقائه يعني عمليًا حرمانه من التواصل المباشر مع غالبية القاعدة الشعبية التي يُفترض أن يسمع همومها ويرافق تطلعاتها.
والأخطر في المسألة ليس شكل الإقصاء بل رسائله. فحين تُحجَب عن البابا فرصة الإصغاء إلى أحد أبرز الفاعلين المسيحيين، تُساء تلقائيًا إلى صورة لبنان السياسية أمام الفاتيكان، ويُعطى الانطباع بأنّ هناك من يسعى لاحتكار تمثيل المسيحيين وتقزيم حضورهم، في لحظة يحتاج فيها البلد إلى مقاربة جامعة لا انتقائية. إنّ من خطّط لهذا الترتيب ارتكب سقطة مهنية وسياسية ستبقى علامة فارقة في سجلّه، وكان في غنى عنها، لأنّه أضاع فرصة وطنية كان يمكن أن تُظهِر لبنان بصورته الجامعة لا المجتزأة.
وفي زمن تتراكم فيه أزمات البلد وتزداد التحديات على الوجود المسيحي السياسي والوطني، كان يُفترض أن تكون الزيارة مناسبة للتأكيد على التعدّدية التي تميّز لبنان، وعلى حضور جميع القوى التي ساهمت في الدفاع عن هويته وتماسكه. أمّا أن تتحوّل زيارة البابا إلى مناسبة محفوفة بالإرباكات، مقصودة كانت أم ناجمة عن سوء التصرّف، فهو أمر يضرب في الصميم جوهر الرسالة التي أرادها لبنان دائمًا: رسالة اللقاء والانفتاح.
إنّ ما حدث يجب أن يشكّل جرس إنذار. فالمكابرة في مواجهة الحقيقة لا تخدم أحدًا، بل تضعف ما تبقّى من صدقية للعمل الرسمي في بلد يعاني أصلًا من أزمة ثقة مع مؤسساته. المطلوب اليوم ليس البحث عن ذرائع لتبرير الخطأ، بل الاعتراف به وتصحيحه في كل الاستحقاقات المقبلة التي تمسّ التوازن الوطني ودور المسيحيين في إدارة الشأن العام. فالتاريخ لا يرحم، وفي صفحات الزيارات البابوية تُسجَّل دائمًا مواقفُ من أحسن التدبير ومن أساءه.
إنّ لبنان الذي ينتظر زيارة البابا كرسالة سلام لا يمكنه أن يتحمّل رسائل الإقصاء الداخلية. المطلوب أن يُسمح لقداسة البابا بأن يرى لبنان كما هو: متعدّد القوى، متنوّع الآراء، موحّد في الإيمان برسالته الوطنية. أمّا محاولة فرض صورة مبتورة للواقع المسيحي، فلن تزيد إلّا من هشاشة ما تبقى من ثقة اللبنانيين بدولتهم، وما تبقّى من قوة لبنان المعنوية أمام العالم…
مكتب الإعلام- منسقية الولايات المتحدة الأميركية







