منذ عام 2005 صنفت “اليونيسكو” موقع نهر الكلب الأثري على أنه “ذاكرة العالم” باعتباره شاهداً على محطات تاريخية عديدة شهدتها البلاد في حقب مختلفة. فمنه مرت مختلف الجيوش من العصور القديمة حتى العصر الحديث، من فرعونية وأشورية وبابلية ويونانية ورومانية وعربية وفرنسية وبريطانية وتركت بصماتها في اللوحات التذكارية الشهيرة التي جعلت منه متحفاً مفتوحاً في الهواء الطلق.
مسلات ولوحات نهر الكلب تلخص تاريخ لبنان من أقدم العصور حتى عصرنا الحالي. في عام 2020 أصدرت “اليونيسكو” مذكرة أكدت فيها أهمية الموقع الأثري وحذرت من مشروع ترفيهي يبنى على مقربة منه، وقد يسيء إلى قيمته الأثرية ويمنع تسجيله على لائحة التراث العالمي. كما طالبت الحكومة اللبنانية باتخاذ كل التدابير اللازمة لحماية الموقع.
جدل التسمية
تعود تسمية الموقع إلى اسم مصب النهر المحاذي له وهو “نهر الكلب”. وهذا الاسم هو ترجمة عربية خاطئة لـFlumen Lycos “نهر الذئب” التي أطلقها على النهر الكاتب الروماني بلينيوس الذي عاش في القرن الأول بعد الميلاد، وفق ما يوضح الأستاذ المحاضر في تاريخ الشرق الأوسط في جامعة إيلينوي الأميركية الدكتور مارك أبو عبدالله، فيما يشير إلى روايات متعددة حول أصل التسمية.
يقول مارك أبو عبدالله إنه من الروايات التي ترتبط بتسمية المكان تلك التي تعود إلى أسطورة من القرن الـ14 وتنسب إلى الكاتب فارس أرفيو، وتحدث فيها عن تمثال لكلب منحوت في الصخر وضع في أعلى الجبل الصخري ليشرف على البحر وينذر الأهالي بوصول جيوش الأعداء. وقيل إن نباحه كان يصل إلى جزيرة قبرص. وفي رواية أخرى قيل إن الجيوش التركية قطعت رأس الكلب ورمته في قاع البحر.
أهمية الموقع الاستراتيجية
تمتع موقع النهر بأهمية استراتيجية في تاريخ لبنان القديم، إذ لم يكن هناك طريق ساحلي يربط بين جنوب بيروت وصولاً إلى مدينة جبيل. أما السبب وراء ذلك فيرجع إلى هطول الأمطار الغزيرة وذوبان الثلوج التي تشكل المستنقعات من خلدة والشويفات مروراً بضواحي بيروت الجنوبية والشرقية والشمالية وصولاً إلى منطقة ساحل المتن. وكانت مدينة بيروت في تلك الفترة، المحصورة في وسط المدينة اليوم، أشبه بجزيرة، كما يوضح أبو عبدالله. وانطلاقاً من هذه المعطيات الجغرافية، شكل الوصول إلى موقع نهر الكلب، الذي كان عبارة عن حاجز طبيعي يحول دون سير الجيوش الغازية نحو الشمال، هدفاً وحتى حلماً لفراعنة مصر وأباطرة بلاد ما بين النهرين.
بين الجغرافيا والتاريخ
انطلاقاً من الأهمية الاستراتيجية للموقع، حفر الملك الفرعوني رعمسيس الثاني (حكم بين عامي 1290 و1224 ق م) ثلاثة نقوش خلال صراعه مع الإمبراطورية الحيثية في السنة الرابعة والـ18 من حكمه. إلا أن اثنين فقط من هذه النقوش الثلاثة لا يزالان في حالة جيدة، ولم يمحيا بفعل العوامل المناخية والزمن. وعلى الأرجح كان هدف الفرعون من وراء هذه النقوش أن يثبت وجوده ويؤكد التأثير المصري في المنطقة بعد مرحلة غياب لأكثر من 100 عام لأسباب داخلية في مصر.
وبعد معركة فاصلة مع الحيثيين في مدينة قادش عام 1274 قبل الميلاد، استطاع الفرعون رعمسيس الثاني تقاسم منطقة الساحل الشرقي للمتوسط وإعادة تثبيت الحضور المصري في الجزء الجنوبي الممتد من النهر الكبير الشمالي إلى مدينة غزة في الجنوب، وتحول موقع نهر الكلب ونقوش الفرعون إلى معيار للقوة والنفوذ والسيطرة.
وبهدف التشبه برعمسيس الثاني الذي يعد من أهم الاستراتيجيين في التاريخ، حرص باقي الملوك الغزاة على إقامة نصب يحمل أسماءهم وبعض إنجازاتهم إلى جانب نقوشه. من بين تلك النقوش ست مسلات أقامها الأشوريون خلال حكمهم في المنطقة بين عامي 853 و610 قبل الميلاد، وبينها لا تزال المخطوطة التي نقشها الملك الأشوري اسرحدون (680 – 669 ق.م)
في نحو عام 671 قبل الميلاد، ظاهرة للعيان وتشهد على معركته الحاسمة ضد المصريين.
ومن النقوش الأخرى الموجودة في الموقع، هناك مسلة الملك البابلي نبوخذ نصر الثاني الذي حكم بين عامي 605-562 قبل الميلاد، وتقع عند الضفة الشمالية لمصب نهر الكلب. ويرجح أبو عبدالله أنه يكون ذلك قد حصل بعد تدميره مدينة أورشليم في عام 587 قبل الميلاد وانتقال اليهود إلى بابل.
أما في الحقبة الحديثة من تاريخ لبنان، فقد نقش الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث، الذي أرسل فرقة عسكرية إلى جبل لبنان أثناء مجازر عام 1860، مسلته عند صخور نهر الكلب في محاولة منه لتأكيد انتهاء مرحلة النفوذ العثماني في لبنان وبداية نظيره الفرنسي فيه.
وفي فترة وجود القوة الفرنسية رسمت وحدة الطوبوغرافيين أول خريطة للبنان، واعتمدها البطريرك الماروني إلياس الحويك عند مطالبته بإنشاء دولة لبنان الكبير عبر اعتماد الحدود التاريخية والجغرافية للبنان.
متحف في الهواء الطلق
مع إقامة هذه النقوش والنصب والعائدة إلى حقبة تراوح ما بين القرن الـ13 قبل الميلاد وعام 2000، أي من خلال النصب الذي يؤرخ انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان، تحول موقع نهر الكلب، كما وصفه عالم الآثار الفرنسي ليون دو لابورد Léon De Laborde عام 1837 إلى متحف في الهواء الطلق.
يؤكد أبو عبدالله أن الموقع يحوي 22 نصباً، ويتضمن مخطوطات مكتوبة بالهيروغليفية، والمسمارية والأبجدية، وبثماني لغات تعود إلى فترة ممتدة بين أوائل القرن الـ13 قبل المسيح إلى عام 2000 بعد المسيح.
تجدر الإشارة إلى الدور الكبير الذي لعبه مدير عام الآثار الأمير موريس شهاب في ترسيخ مكانة الموقع عندما اقترح في عام 1958، ولدى توسيع الطريق البحرية التي تربط شمال لبنان ببيروت إلى إقامة نفق تحت صخور نهر الكلب.
مكانة لا تحظى بالتقدير
يعد موقع نهر الكلب الأثري بما فيه من صخور ومسلات عرضة لأخطار عديدة، منها ما هو ناتج من التلوث بوجود الطريق السريع الذي يربط شمال لبنان بالعاصمة بيروت. كما يعد عرضة للأضرار الناتجة من تعرض النصب والنقوش للبحر، هذا فضلاً عن الأضرار البشرية الناتجة من تشويه البعض النصب مستهترين بمكانته العالية وأهميته التاريخية، وأيضاً عن رمي النفايات وبقايا الطعام.
يشدد أبو عبدالله على أهمية إطلاق حملة وطنية للبحث في الآليات المناسبة لحماية الموقع، التي تبدأ بنشر الوعي الثقافي بين تلاميذ المدارس والجامعات والمواطنين وتهدف إلى إبراز أهمية الموقع في تاريخ لبنان المديد وفي تكوين هوية البلاد.
يضيف، من بين الآليات الضرورية أيضاً لحماية الموقع تكثيف الدراسات العلمية المتعلقة بسبل الحد من الأضرار وحماية النقوش وتحسين الموقع، التي تشرف على بعضها المديرية العامة للآثار بإمكاناتها المحدودة حالياً في ظل الأزمة الاقتصادية بالبلاد. ويرى أنه انطلاقاً من هذه الآليات والحلول، ومن فرادة الموقع، يمكن للبنان تقديم طلب جديد إلى منظمة “اليونيسكو” بهدف إدراج الموقع على لائحة التراث العالمي كأحد أهم المعالم التاريخية والتراثية في البلاد.