منذ اتفاق الطائف المبرم عام 1989 أشرفت دمشق على كواليس انتخاب كافة رؤساء الجمهوريات. ومنذ انسحاب الجيش السوري أشرف حزب الله ومن ورائه إيران على أي انتاج للرئيس في قصر بعبدا. دمشق كانت تعتبر البلد حديقة نفوذ خلفية وكذلك تعتبره طهران حاليا منذ أن تفاخرت منابرها باحتلال أربع عواصم عربية.
وإذا ما فرض وهج اغتيال الحريري وقوة الضغوط العربية والأممية والدولية واقعا قاد إلى قرار الرئيس السوري بشار الأسد سحب قوات بلاده من لبنان عام 2005، فإن إيران وحزبها في البلد لا يشعران بضغوط ترقى إلى مستوى السماح بعملية سياسية ديمقراطية تقليدية لانتخاب رئيس للجمهورية في لبنان.
فإذا ما فرض “اتفاق الدوحة” بعد أيام على “غزوة” 7 مايو 2008 التي نفّذها حزب الله تسويةً لانتخاب ميشال سليمان رئيساً، فإن إقفالا تاماً لقصر بعبدا أمام أي بديل عن مرشح الحزب قاد بالنهاية إلى انتخاب ميشال عون عام 2016.
تكاد معركة حزب الله الحالية دفاعاً عن مرشحها للرئاسة أن تكون وجودية لجهة الدفاع عن الحيّز الذي يهيمن عليه داخل النظام السياسي اللبناني وما يوفّره من نفوذ لإيران. استنتج الحزب أفول مرحلة بعد الانتخابات النيابية الأخيرة عام 2022 حين خسر وحلفائه الأغلبية الراجحة داخل البرلمان اللبناني من دون انتقال تلك الأغلبية إلى خصومه. ومثّل الأمر إشارة على تراجع قدرته على الإمساك باللعبة الانتخابية حتى في الدوائر المفترض أنها محسومة للثنائي الشيعي في جنوب وشرق البلد.
فقد الحزب حسم الأمر لصالح مرشّحه من خلال اللعبة السياسية. أولاً بسبب موقعه وحلفائه المتراجع داخل مجلس النواب. ثانياً بسبب ارتفاع أصوات الاعتراض داخل الطبقة السياسية عامة (حتى داخل البيئة الشيعية) ضد سلوك الحزب وخياراته. وثالثا بسبب خسارته للغطاء المسيحي الذي تمتع به منذ إبرامه عام 2006 “تفاهم مار مخايل” مع التيار الوطني الحرّ برئاسة ميشال عون حينها. لكن الجديد أن ما يتفلت من قبضته في السياسة لا يبدو أنه قادر على تعويضه بالسلاح وفائض القوة.
تظهر أعراض أفول زمن واضحة في تراجع وهج السلاح عن قدراته القهرية على اللبنانيين. لم يعد للسلاح بيئة أخلاقية حاضنة بالمعنى الذي كان متوفّرا قبل ذلك. ولم يعد من السهولة تسويق معادلة استخدام السلاح حماية للسلاح حتى لدى “جمهور المقاومة”. اكتشف اللبنانيون أن هذا السلاح لم يحمِ حقوق بلدهم البحرية، لا بل كان متواطئا في إنتاج تسوية حدودية ملتبسة برعاية أميركية مخصّبة بأسئلة من ريبة وشكوك.
ارتبك سلاح الحزب في صدامات مسلحة مع عشائر خلدة بالقرب من بيروت وفي اعتراض أهالي قرية شويا في جنوب لبنان على وجود منصة إطلاق صواريخ عام 2021. وإذا ما تتمدد هذه الأحداث صوب أمثلة كثيرة، فإن استخدام السلاح ضد قافلة لقوات اليونيفيل عام 2022 أظهر اندفاع الحزب للتبرؤ من هذا الإثم، وبالتالي عملياً التبرؤ من آثام سلاحه.
والواضح أن الحزب ما زال يعتبر أن بإمكانه التعويل على تميّز السلاح الذي يمتلكه. وإذا ما يتعذّر لأسباب ذاتية وموضوعية وتكتيكية إشهاره على النحو الذي فعله سابقا واعتبر أيام استخدامه “مجيدة”، فإن استعراض ذلك السلاح هو من عدّة الشغل التي تجلّت في المناورة العسكرية التي نفذّها في بلدة عرمتي في الجنوب في 22 مايو الماضي والتي، وإن وضعت أهدافها في إطار مواجهة ضد إسرائيل ما فتئ يتوعّد بها، كان واضحاً أن رسائلها داخلية تحنّ إلى “الزمن الجميل”.
ليس سهلاً أن يستنتج حزب الله تقادم تقليعة السلاح ناظماً بنيويا لحراكه السياسي في لبنان. وليس سهلاً أن يصطنع تأقلماً ليس من نسيجه مع القواعد الجيوسياسية التي يدفع بها الاتفاق السعودي الإيراني في بكين في 10 مارس الماضي. وإذا ما تدخل طهران منطق تفاهمات مع العرب والأوروبيين وحتى الأميركيين، فإن وظيفة الحزب وسلاحه تبدو معلّقة وقد تميل إلى تقادم واندثار، ما قد يطرح أسئلة وجودية لا يبدو أن الحزب يمتلك مرونة لاجتراح أجوبة لها.
هنا فقط قد نفهم جسارة معركة الرئاسة في لبنان بالنسبة للحزب. يتذكّر الحزب أنه هو من أتى بتسوية بقوة السلاح لانتخاب ميشال سليمان رئيسا، فانتهى سليمان منقلبا على الحزب واصفا عام 2014 ثلاثية الدولة والشعب والمقاومة بـ “الثلاثية الخشبية”. يتذكّر أنه هو من فرض على جميع فرقاء البلد أن لا رئيس إلا مرشّحه ميشال عون، فانتهى عون وفريقه إلى ما يشبه الطلاق مع الحزب وانتهاء صلاحية الحلف الذي جمعهم منذ 17 عاما. فما بالك بالنسبة للحزب أن يسكن قصر بعبدا رئيس من خارج فضاءاته.
ردد الحزب أنه “لا يريد رئيسا يطعن المقاومة في الظهر”. وبغضّ النظر عن أن في هذا الشرط اعتراف بأنه فاقد لبيئة لبنانية آمنة حاضنة، فإن ترجمة الشرط تعني أن الحزب لا يريد لأي رئيس أن يمسّ “مقدس” سلاحه. ولئن يعرف أن هذا الاستحقاق قادم ولو بعد حين، فإن تمسّكه بمرشحه سليمان فرنجية هو ضمان لتأجيل الأمر إلى مراحل بعيده. أما إذا ما فقد مرشّحه أي حظوظ، فإن خيار الحزب ذاهب إلى القبول بأقل البدائل ضررا. هنا فقط تتأخر أسماء وتتقدم أسماء أخرى هي الأقل سوءا على مصالح طهران وحزبها الوفيّ في لبنان.