يبدأ الممر المزمع إنشاؤه بخط بحري بين ميناء موندرا في الهند، وهو أكثر الموانئ الهندية شمالا على بحر العرب (يقع في ولاية كجرات التي ينتمي إليها مودي، وقد شغل منصب رئيس وزرائها عدة سنوات قبل توليه حكم البلاد بأسرها بدءا من عام 2014) وميناء الفجيرة في الإمارات، بما يتفادى المرور بمضيق هرمز الذي تستطيع إيران إغلاقه. ثم يجري النقل بالسكك الحديدية عبر الإمارات والمملكة السعودية والأردن وصولا إلى ميناء حيفا، إذ جرى إشراك دولة إسرائيل في المشروع. ومن حيفا، يتواصل النقل عبر البحر الأبيض المتوسط إلى شتى الموانئ الأوروبية المطلة على المتوسط، لاسيما موانئ اليونان وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا.
وقد أشارت معظم وسائل الإعلام إلى أن مصلحة أمريكا في مشروع الممر، بالرغم من أن لا علاقة لها به من حيث الجغرافيا، إنما تقوم على منافسته للمبادرة الصينية الكبرى المعروفة باسم «الحزام والطريق» والتي تشمل مشاريع متعلقة بالبنية التحتية في كافة القارات. إلا أن ذلك إغفال للمشروع الحقيقي الذي يتوخى المشروع الجديد منافسته، ألا وهو «معبر النقل الدولي بين الشمال والجنوب» الذي شرعت الهند في تجهيزه منذ عدة سنين مع كل من إيران وروسيا. فإن «الممر» الجديد المزمع إنشاؤه لا ينافس حقا «مبادرة الحزام والطريق» إذ هو من طبيعة مختلفة ونطاقه أضيق بكثير، بينما ينافس تماما مشروع «المعبر» (التسمية الإنكليزية واحدة «corridor» للمشروعين، لكن التمييز بين التسميتين بالعربية يسهّل الحديث) الذي يقوم على وصل ميناء مومباي الهندي بميناء بندر عباس الإيراني، ومن ثم العبور برا من هذا الميناء الأخير عبر إيران وأذربيجان وروسيا حتى وسط القارة الأوروبية (وصفنا هذا المشروع على هذه الصفحات قبل أكثر من عام: «روسيا وإيران تسرّعان مشروعهما المنافس لقناة السويس» 21/6/2022).
وكانت روسيا قد بدأت تخطط لمشروع «المعبر» مع الهند وإيران منذ بداية القرن الحالي، أي قبل ما يقارب ربع قرن، وقبل أن تنحط علاقاتها بمعظم الدول الأوروبية بنتيجة غزوها الأول لأوكرانيا في عام 2014 ومن ثم غزوها الثاني والأخطر في عام 2022. ومن الواضح أن فكرة روسيا بإنشاء «سويس جديدة» (كما أسماها المعلقون الروس) لتكون معبرا من آسيا إلى أوروبا الغربية عبر أراضيها قد انتهت بما لا رجعة عنه. هذا ويبقى مشروع «المعبر» صالحا لوصل جنوبي شرق آسيا وشبه القارة الهندية بآسيا الوسطى والقوقاز وروسيا، لكن الطموح السابق بأن تستخدمه سائر الدول الأوروبية بات مستحيلا. وهنا يأتي دور «الممر» كبديل عن «المعبر» بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي.
إن المشروع الجديد بديل عن المشروع السابق على حساب إيران وروسيا ولصالح الإمارات والمملكة السعودية. لكن خطورته كامنة في أن إدارة بايدن سهرت على ضم دولة إسرائيل إليه، بما يدعم المساعي المكثفة التي تبذلها منذ أشهر من أجل استكمال ما أشرفت عليه إدارة دونالد ترامب من «تطبيع» بين الإمارات وإسرائيل، وذلك بترتيب اتفاقية «تطبيع» مماثلة بين المملكة والدولة الصهيونية.
أما الخاسرة الكبرى إزاء كافة هذه المناورات، فهي مصر. ذلك أن المشروعين، «المعبر» و«الممر» يلتقيان في أنهما يرميان على حد سواء إلى التعويض عن قناة السويس. وهذا ينذر بالطبع بانخفاض العائدات التي تجنيها مصر من عبور القناة، بما من شأنه تأكيد صحة الانتقادات التي تم توجيهها لمشروع شق «قناة السويس الجديدة» أول مشاريع عبد الفتاح السيسي «الفرعونية» الذي شرع فيه على الرغم من الدعوات إلى التريث نظرا للشكوك في شأن تزايد الملاحة عبر القناة في المدى المتوسط والبعيد.
علاوة على ذلك، وبنتيجة الضغط الأمريكي من أجل المضي قدما في التطبيع مع الدولة الصهيونية، جرى تفضيل المرور من المملكة السعودية عبر الأردن إلى ميناء حيفا على المرور عبر المملكة وسيناء إلى أحد المينائين المصريين في العريش وبور سعيد. وهذا ممكن بفضل مشروع «الجسر البري بين مصر والسعودية» القائم بين البلدين منذ عام 2016 والذي يرمي إلى ربط منطقة تبوك، التي يحرص محمد بن سلمان على تنميتها (مشروع مدينة «نيوم» العملاق) بشرم الشيخ، مرورا بجزيرة تيران التي تخلى السيسي عن السيادة المصرية عليها (هي وجزيرة صنافير) في عام 2016 ذاته بغية تسهيل المشروع.
هكذا يشكل «الممر» المزمع إنشاؤه إخفاقا فادحا لعبد الفتاح السيسي، الذي كان في نيو دلهي وقد مرت العملية من تحت أنفه على ما يبدو، بدل أن يبذل مساعي حثيثة من أجل إقناع الإمارات والمملكة باشتراط إشراك مصر في المشروع. والحال أن الطريق المصرية أضمن بكثير من طريق تمر عبر دولة بات يحكمها رجال متطرفون في عدائهم العنصري للعرب، وهي تعيش حالة اضطراب قصوى ليس ما يشير إلى إمكانية تخطيها في المستقبل المنظور، ناهيكم بالطبع من خطورة «التطبيع».