وجع عمره سنوات
لطالما حلمت يمان الحاج بأن تشاركها والدتها صاحبة الصوت الأوبرالي الغناء، فإذا بالفرصة تأتيها الآن تلقائياً مع أغنية “المهاجر” لتقدماها معاً باللغتين العربية والإنجليزية. فعندما إنضمت الأم إلى ابنتها، أضفت على العمل المزيد من الابداع والصدق مع حالة تكاملية ذات طابع خاص. بالنسبة إلى يمان، قد يكون إطلاق أغنية “المهاجر” في هذا التوقيت بالذات مجّرد صدفة. إلا أنها في الواقع وليدة سنوات من الوجع الذي تخمّر في داخلها حتى أتت بهذا الكم من الإحساس الصادق. عانت يمان ألم الهجرة كأي شابة في مثل سنّها، مراراً، سواء من خلال مقربين غادروا البلاد قسراً أو عبر تجربتها الخاصة عندما اضطرت وعائلتها إلى مغادرة لبنان في شكل مفاجئ ومؤلم بعد انفجار مرفأ بيروت. في حديث مع “اندبندنت عربية”، اجتمعت فيه رصانة الأم مع الإحساس المرهف للإبنة، أكدت يمان أن موضوع الأغنية هو موضوعها الخاص ويعني لها الكثير بعد تشرّد أصدقائها في مختلف أقطار العالم وبلوغهم حائطا مسدودا. فهم يعيشون معاناة الغربة في شكل يومي. لذلك، أرادت أن تنقله من خلال إحساسها بصدق ومن دون تكلّف، فدخلت الأغنية إلى القلب مباشرة واخترقت المشاعر. “في الواقع هذا الحس بمعاناة الغربة موجود لدي منذ الطفولة، خصوصاً أن والدتي كانت تسافر بشكل متكرر بسبب ظروف عملها. وسافرت بعدها شقيقتي الكبرى للدراسة في فرنسا وأنا طفلة. حتى أن تفتت العائلات كانت مسألة عادية لي في مرحلة من المراحل، وصرت أستغرب وجود عائلات يجتمع أفرادها بالكامل في لبنان. بعدها كانت مغادرتي البلاد قسراً بعد الأزمة وانفجار المرفأ، هرباً من الوضع السائد، تجربة سلختني عن مجتمعي. فإذا بكافة الأحاسيس التي في داخلي حيال هجرة المقربين قد خرجت لتضعني في حالة نفسية صعبة”.
أغنية تشبه صاحبتها
تشبه اللحظة التي ولدت فيها أغنية “لمهاجر” بالنسبة ليمان، الأسلوب الذي قدمتها فيه، بكل ما عفوية وعذوبة. فأثناء عزفها في لحظات حزينة على البيانو، راحت تعبر عن وجعها وعن وجع كل من غادر لبنان رغماً عنه، ومن ضمنهم جدّها الرسام الفلسطيني الأصل الذي تهجّر من وطنه أيضاً. بالتالي، لم تتطلب ولادة الأغنية أكثر من أيام معدودة لكونها عبّرت عن حالة طالما كانت موجودة في داخل صاحبتها، حتى أخرجتها إلى العلن.
أما آلة الكمان التي تعزفها فيها لتعبر من خلالها عن حالة الحزن التي في داخلها، فكان سهلاً عليها أن تتعامل معها لاعتبارها متمرّسة في العزف عليها.
أرادت الشابة المرهفة الإحساس، ان تكون لأغنيتها مقدمة أوركسترالية فأبدعت فيها. لكنها أرادت أيضاً أن “تشرّق” الأغنية التي كتبتها ولحنتها كاملة باللغة الأجنبية من دون الاعتماد على آلات شرقية، فكان صوت والدتها الملجأ، تماماً كما في طفولتها عندما كانت تغني لها لتنام. وإذا بها تحقق بذلك حلماً راودها بأن تشارك والدتها الغناء لتنقل الأغنية إلى مستوى آخر، على حد قولها. تماماً كما كانت تتمنى وتتوقع، رفعت والدتها الأغنية إلى أعلى المستويات تماماً، وكان مطلع الأغنية الأروع بالنسبة لها. إذ أن صوت والدتها كان دوماً أكثر الأصوات تأثيراً فيها، بكل ما فيه من أنفاس روحانية، ولاعتباره “يدخل إلى القلب ويغلّفه ويدفئه” كما تصفه بعبارات تحمل كل الشغف الذي لديها.
صحيح أن يمان الحاج رفعت الصوت من خلال أغنية “المهاجر” لكنها لم تشفِ غليلها. فتلك القضية التي طالما أوجعتها، وأي قضية أخرى، ستوجعها مهما فعلت. لذلك، تصرّ على الاستمرار بالكتابة عن معاناة الهجرة التي تعد من القضايا الأشد إيلاماً بالنسبة لها كشابة لبنانية.
فن يجري في العروق
تأثرت يمان في طبيعة الحال، بأجواء بيتها الفنية الموسيقية. ف ترسخت علاقتها بالفن وتبلورت مع الوقت. وكان من البديهي لوالدين في مجال الفن والفكر (والدها المفكر والباحث يوسف كمال الحاج) أن يوجها أولادهم في هذا الإتجاه. هذا ما تؤكده الفنانة فادية طنب في حديثها، مشيرةً إلى أنها لم ترغم يوماً أحد أولادها على اختيار الفن، لكنها حرصت على توجيههم نحو الموسيقى، إلى جانب الرسم، بدءاً من عمر الست سنوات. بذلك، تحوّلت الموسيقى إلى جوّ في حياة العائلة، خصوصاً أن طنب تتمرن يومياً في المنزل على الأداء الغنائي والموسيقى، وقد تفتحت عيون أولادها على هذا الجو. أما يمان بشكل خاص، فتميزت دوماً بإحساس مرهف، سواء في الحياة اليومية أو في الموسيقى، مما يفسّر هذا النجاح الذي حققته أغنيتها بدخولها إلى القلب مباشرة بكل ما فيها من صدق.
“عندما أسمعتني يمان الأغنية، لم أتمالك نفسي وانهمرت دموعي من شدة التأثر بهذه الرسالة التي تنقلها وبالأسلوب الذي أوصلتها فيه. لكني تأثرت أكثر، عندما طلبت مني مشاركتها الغناء، لتسمع صوتي فيها كما عندما كانت طفلة وأغني لها لتنام. بالفعل هذا ما حصل بعد أن كتب زوجي كلمات الأغنية. كنا قد اختبرنا هذا الإحساس الرائع عندما غنينا معاً في ريسيتال ميلادي في عام 2020 حمل الكثير من الوجع الذي كان في القلوب بعد انفجار المرفأ والأزمة. وهذه المشاركة مع ابنتي في الغناء تعزّ عليّ كثيراً”.
تصف الأم ابنتها بكونها كانت عاطفية بكل ما للكلمة من معنى، وحساسة لكل قضية توجع الآخرين وفيها شيء من الظلم، ومنها القضية الفلسطينية التي تناولتها قبل الحرب في غزة حتى، انطلاقاً من قصّة جدها. فهي لا تصطنع أحاسيسها بل تنقلها بصدق وشفافية لتوصل ما لديها. ولكونها كتبت الكلام ولحّنت العمل الذي قدمته بصدق، أتى مطابقاً لصدقها وخلا من التصنّع فتقبّله الكل. “هذا العمل يشبه شخصيتها التي لا تعرف الكذب. وأتى المخرج إيلي فهد ليترجم صدقها بأسلوب رائع وبفكرة نقلت هذا الصدق الذي لديها بشكل أمثل من خلال الصورة”.
طوال مسيرتها الفنية، تمسّكت فاديا طنب بالفن الراقي وابتعدت عما هو رائج، معتبرةً دوماً الموسيقى العالمية هويتها. وضعت نفسها في خانة خاصة بأسلوبها الغنائي ذي الطراز الخاص الذين جمع بين اللونين الغربي والشرقي، وبأعمال تشبهها هي وحدها، وبصوتها الذي يذوب رقة ويفرض وجوده بمتانة وسلاسة. في مشاركتها ابنتها في الغناء، لم يكن التحدي الحقيقي لها في الغناء في المقطع الذي يخصها، لما لها من إمكانات فائقة. فالفنانة التي غنت البيزنطي والسرياني والموشحات ومختلف الأنماط الغنائية لا يوقفها تحدّ من هذا النوع. أما التحدي الحقيقي فكان في طريقة التعبير لتصل الأغنية والرسالة التي من ورائها بإحساس، في مختلف مراحلها، فاتسمت النتيجة بالروعة كما هو متوقع.