منذ اندلاع معركة “طوفان الأقصى” في غزة يعيش لبنان مرحلة دقيقة من حياته على وقع طبول الحرب في الإقليم، الأمر الذي يترافق مع ارتفاع منسوب “الحرب الدعائية” التي تستهدف الرأي العام اللبناني.
كما تشهد البلاد سباقاً محموماً بين حالتي الحرب والتهدئة على وقع التطورات المتسارعة في المنطقة الأمر الذي أدى إلى تباين في وجهات نظر بين مكونات المجتمع اللبناني، بين شريحة من المواطنين بدأت تتعايش مع فكرة حتمية وقوع “حرب لبنان الثالثة” باعتبارها نتيجة طبيعية لاستراتيجية “وحدة الساحات” التي تدعو إليها إيران وحلفاؤها. في المقابل، انتقل الموقف الرافض للحرب المفتوحة من الصمت في المراحل الأولى لحرب غزة إلى إعلان الرفض العلني لمحاولات “جر لبنان إلى معركة قاسية” قد تؤسس إلى حالة من الفوضى المطلقة على المستوى السياسي والاجتماعي.
حرب 2006 في الذاكرة
في يوليو (تموز) 2006، اندلعت حرب لبنان الثانية بعد قيام “حزب الله” باختطاف جنديين إسرائيليين، وطوال 33 يوماً، صبّت الطائرات الإسرائيلية حممها على رؤوس اللبنانيين، وتجاوز عدد القتلى 1191 لبنانياً، وتدمير ما يزيد على 15 ألف وحدة سكنية وخسائر اقتصادية هائلة ناهيك عن تدمير الطرقات والجسور وأجزاء من مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت.
وتسببت الحرب بتهجير أكثر من مليون لبناني وبدمار كبير طاول مناطق واسعة من جنوب لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع. في حينه، أسهم تحالف عربي ودولي واسع في التوصل إلى وقف لإطلاق النار واستصدار القرار الدولي رقم 1701 الذي ثبّت دور قوات حماية السلام الدولية “يونيفيل” ومنطقة “منزوعة السلاح” جنوب الليطاني وانتشار الجيش اللبناني في الجنوب.
كما لعبت الدول العربية دوراً في فرض وقف إطلاق النار وكذلك جهد دول مجلس التعاون الخليجي لإعادة إعمار المناطق المدمرة وتقديم المنح المالية ووضع الودائع في مصرف لبنان لتعزيز الوضعية المالية للدولة اللبنانية.
اليوم، يخشى اللبنانيون من تكرار مشاهد الدمار الهائل على نطاق واسع، في ظل التحميل الإسرائيلي الدولة اللبنانية مسؤولية أفعال الجماعات المسلحة العاملة في ميدان جنوب لبنان مع مخاوف جدية من آثار حرب كهذه على النسيج المجتمعي وأن تكون نسخة موسعة ومكررة لما يعانيه أهل غزة، في ظل عدم استعداد الكثير من الدول لتقديم دعم مالي واقتصادي من دون تغيير في السلوك السياسي.
أيقن عدد من القادة السياسيين خطورة تكرار تجربة غزة في لبنان، واتخذ السياسي اللبناني وليد جنبلاط موقفاً متقدماً في التحذير من الاستدراج إلى الحرب، لأنه “عندها لن يبقى شيء من لبنان”، مبدياً حرصه لعدم توريط البلاد و”أن لا ندخل في الحرب، وقرار تهجير الفلسطينيين يهودي صهيوني قديم قبل أن يكون ثمة رادع من قبل (حزب الله)”. كما ذكر جنبلاط أنه “في 2006، كانت للحرب ضوابط خارجية، وساحتها محدودة، كما كانت هناك دول تحاول تجنيب لبنان بعض الخسائر، فانحسرت الحرب في بعض المناطق لكن اليوم لا أحد جنبنا في ظل الانحياز الغربي لإسرائيل”.
من جهته، أكد رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي قيامه بواجبه لتجنيب لبنان دخول الحرب، مشيراً إلى أن لبنان اليوم “في عين العاصفة”. ورداً على سؤال لوكالة الصحافة الفرنسية، عما إذا كان لمس خلال اتصالاته نية “حزب الله” بعدم التصعيد، أجاب ميقاتي “حتى اليوم، أرى أن حزب الله يقوم بعقلانية وحكمة بإدارة هذه المواضيع، وشروط اللعبة لا تزال محدودة”، وأضاف ميقاتي أنه لا يستطيع “طمأنة اللبنانيين” لأن الأمور “مرتبطة بالتطورات في المنطقة”، مكرراً أن الشعب اللبناني “لا يريد دخول أي حرب ويريد الاستقرار”. من جهته، أكد النائب جبران باسيل رئيس “حزب التيار الوطني الحر” في حوار متلفز “تفهمه لوجود جبهة وحدة الساحات”، ولكنه شدد على أنه “لا يجب جر لبنان إلى مكان لا مصلحة له فيه”، وأن “(حزب الله) يستهدف العسكريين بينما إسرائيل تهددنا باستهداف المدنيين، ومن واجب اللبنانيين منع انزلاق لبنان إلى الحرب، ولكن في الوقت نفسه لا نريد جره إلى الهزيمة، وإذا فرضت علينا الحرب فسنواجهها”.
“لو كنت أعلم”
يراهن الكثير من اللبنانيين على عدم دخول لبنان إلى نفق حرب إقليمية واسعة النطاق. ويذكّر عضو الهيئة التنفيذية في حزب “القوات اللبنانية” وهبة قاطيشا بالمقولة الشهيرة لأمين عام “حزب الله” حسن نصرالله في حوار تلفزيوني أعقب انتهاء حرب لبنان الثانية، “لو كنت أعلم في 11 يوليو 2006 أن هذه العملية (خطف الجنديين الإسرائيليين) ستؤدي إلى مثل هذه الحرب، هل كنت سأقدم عليها؟ لا بالتأكيد، لا”، متحدثاً عن رفض شريحة كبيرة من اللبنانيين “الدخول في مواجهات عسكرية بناء للساعة الإيرانية”. ويعود قاطيشا إلى ما قبل حرب 2006، قائلاً “في جلسة الحوار التي حضرتها، أبلغنا نصرالله أنه لن تكون هناك حرب، ويمكن الاستمتاع بصيف هادئ، واستقبال الزوار وتنشيط السياحة، ولكن ما هي إلا أسابيع حى طُلب منه القيام بعملية خطف الجنود، وتسببت بدمار غير مسبوق بسبب الرد العنيف من قبل العدو”.
الخشية من “القوة المطلقة”
يخشى لبنان من أن تتكرر على أراضيه التجربة التي يعاني منها المدنيون في غزة بفعل العنف الإسرائيلي المفرط. ويعتقد قاطيشا أن “لبنان يعيش حالياً في ظل مواجهة دون مستوى الحرب المفتوحة يقودها حزب خارج إرادة الدولة، حيث هناك قصف يومي تشارك فيه جماعات خارجية. كما تشهد البلاد تعطيلاً في الماكينة الاقتصادية، وحالة من النزوح، والهجرة”، مرجحاً عدم الانزلاق إلى حرب مفتوحة كما جرى في 2006 لأن “الحزب يستمر بالمناوشات التي لا تطاول العمق الإسرائيلي”، كما أنه يخضع لمجموعة من الضغوطات الشعبية، والمواقف اللبنانية الرافضة للحرب”، كما “أنه بات يعلم بالضرر الكبير الذي سيلحق بلبنان أجمع على غرار الخراب في غزة”، وإعادة لبنان للعصر الحجري على طول 250 كيلومتراً.
كما يشكك قاطيشا بفاعلية تجربة “وحدة الساحات” حتى اللحظة، حيث تتخذ بعداً إعلامياً أكثر منه ميدانياً، قائلاً “لا ندرك أين ستسقط الصواريخ الحوثية؟ كما أن استهداف القواعد الأميركية في العراق وسوريا يتخذ طابع التحرش المتكرر”. ويشير إلى أن العامل الذي سيقود إلى الدخول في مواجهة واسعة غير محمودة العواقب على لبنان هو “دخول القوة الصاروخية لـ (حزب الله) إلى قلب المعركة، وقصف العمق الإسرائيلي”، لافتاً إلى سقوط القرار 1701 في 12 أغسطس (آب) أي اليوم التالي لانتهاء حرب 2006، في ظل حرية الحركة الميدانية لعناصر الحزب واستمرار التسليح.
ويرفض قاطيشا تشريع الأعمال المسلحة التي “قد تقود لبنان إلى الهاوية”، مذكراً بتحفظ “القوات اللبنانية” على البيانات الوزارية للحكومات التي تمثل الحزب فيها.
الحرب تبقى احتمالية
يرفض المحللون العسكريون الإقرار بحتمية اندلاع المواجهة الشاملة، ولكنهم يؤكدون في المقابل احتمالية اتساعها في ظل الأوضاع الراهنة وتعدد اللاعبين على الجبهات المتعددة.
ويشير العميد الطيار المتقاعد أندريه بو معشر إلى أن “المواجهات على الحدود الجنوبية للبنان ما زالت ضمن الخطوط المرسومة لحدود الاشتباك منذ 2006، وعدم الدخول في حرب شاملة، والحفاظ على التناسب في الرد الذي ترعاه قواعد الاشتباك في المنطقة”.
ويعتقد بو معشر بعدم وجود مصلحة لكافة الأطراف لناحية توسيع دائرة الاشتباك والمواجهة، وهناك جهود تُبذل لمنع تمدد الحرب من ناحية أنه “لا مصلحة لدى إسرائيل لتوسيع المواجهة على الجبهة الشمالية للتفرغ لمواجهة (حماس)”، مستدركاً “قد تستغل مستقبلاً أي نجاحات في ميدان غزة لتوسيع المواجهة، واستهداف (حزب الله) مستفيدة من الغطاء الدولي القائم حالياً”. ويضيف “كما أن الولايات المتحدة لا ترغب في توسيع نطاق الحرب والصراع أو المساس بالمصالح الاقتصادية والمقامرة باستقرار المنطقة، واستعانت بقدراتها العسكرية للتهديد وليس للاستخدام إلا في حالة استثنائية. وكذلك الأمر مع إيران التي لا تحبذ المواجهة المباشرة لأنه في حالة الحرب ندخل مرحلة الغموض واللايقين، ولا يمكن لأحد التكهن بنتائجها”، وهذا الأمر ينسحب على “حزب الله”.
اختلافات جذرية مع حرب 2006
يؤكد بو معشر أن الأولوية هي للاستفادة من التغيير في الرأي العام الدولي واستمرار الضغط الشعبي للوصول إلى فرض وقف إطلاق النار، مضيفاً أن “استمرار الحرب العبثية ستتسبب بمزيد من الضحايا الأبرياء”، كما أن “استمرار الجرائم الإسرائيلية لن يؤدي إلى استرجاع الهيبة التي خسرها جيشها، جازماً “في النهاية سيعود اللاعبون إلى طاولة المفاوضات والحلول السياسية التي تشكل مبادرة السلام العربية أرضية لها، والاعتراف بحل الدولتين”.
ويتطرق إلى “موقف لبناني جامع للدفاع في وجه أي اعتداء إسرائيلي، والتحوط لأي مواجهة في حال فرضت علينا، ولكن الحال لن تكون كذلك في حال الانجرار إلى توسيع المعركة لمصلحة أطراف إقليمية”. ويتحدث عن “التطور في القدرات للجماعات التي تفوقت في الحروب غير الكلاسيكية، والاستمرار في القيادة والسيطرة وإدارة المعركة على رغم التفوق التقني لآلة الحرب الإسرائيلية”.
في المقابل، يلفت بو معشر النظر إلى التحوّل النوعي في القدرات العسكرية لدى الجيش الإسرائيلي في ما بعد 2006 الذي أصبح يمتلك قدرة لمواجهة الأخطار بفترة قياسية في ظل الطيران المسيّر. كما أن هامش المناورة لدى “حزب الله” أصبح أضيق بسبب وجود “اليونيفيل” وانتشار الجيش، إضافة إلى “اختلاف في مزاج البيئة الحاضنة له ووجود الكثير من الغرباء في الجنوب وتجنيد العملاء في ظل الأزمة الاقتصادية”.