بعدما اطّلع مجلس الوزراء خلال جلستين متتاليتين على المبادئ القانونية التي جعلت الصفقة مرفوضة من قبل هيئة الشراء العام وديوان المحاسبة، يُفترض أن يناقش المجلس غداً التقرير الذي كُلّف وزير الإتصالات جوني القرم بإعداده حول الصفقة، والذي وزعت نسخ منه على الوزراء للإطلاع عليه.
وقد تبيّن أنّ التقرير الذي اطلعت عليه «نداء الوطن»، والمؤلف من 87 صفحة، لا يتعدى كونه عملية تجميع مستندات، ولا يتضمن الكتب المتبادلة بينه وبين هيئة الشراء العام، ما يكشف محاولة لإخفاء وقائع أساسية جعلت المزايدة غير مقبولة من قبل الهيئات الرقابية، علماً أن القرم مهّد لهذه المستندات بمقدمة قام بـ»نسخ ولصق» جزء كبير من مضمونها الأساسي، من تقريره الذي رفعه مع الصفقة بتاريخ 9 آب الماضي، إلى رقابة ديوان المحاسبة المسبقة. فنسخ المحتوى من دون قراءة ثانية له، ما أوقعه في سقطات عديدة بالشكل كما بالمضمون.
إذ بدا مستغرباً أن وزير الإتصالات الذي حاول على مدار الأسبوعين الماضيين أن يلهي الرأي العام بمضامين محادثات خاصة ورسائل واتساب متبادلة بينه وبين رئيس هيئة الشراء العام جان العلية، مضى بـ»تقريره» بعملية «تمويه»، لتوريط مجلس الوزراء بـمواجهة مع الهيئات الرقابية، من خلال ذكر بعض الوقائع، ونقيضها. كأن يقول إنّ هيئة الشراء العام وافقت على المزايدة ثم يشير إلى أنّ الديوان رفض المزايدة بالاستناد إلى تقارير الهيئة. ومن ثم اغفاله مستندات تطلب تصويب بعض مسار الإلتزام بما يحافظ على مبدأ المنافسة والشفافية.
وأبرز هذه المستندات ما ورد في آخر كتاب وجهته الهيئة للقرم قبل الإعلان عن جلسة المزايدة الثالثة في 6 حزيران، وصدرت بتاريخ 1/6/2023 حيث اعتبرت الهيئة أنّ «معادلة إرساء التلزيم على مدى سنوات الإستثمار يجب أن تكون نتيجة لدراسة مالية معمقة». وأنه يجب «إعادة النظر في قيمة رأسمال شركة المشروع « وأن «يتم الإعلان عن المزايدة بشكل واسع من خلال السفارات اللبنانية في الخارج ويتم اعطاء العارضين مهلاً كافية لتقديم عروضهم».
فجاء رد وزير الإتصالات في كتاب حمل الرقم 3344 إ.و. ليبرر عدم الأخذ بملاحظات هيئة الشراء العام، مقروناً مصداقية الوزارة بعدم تأجيل المزايدة. وفي كتاب الوزير نفسه ورد رفض لتقسيط رأسمال الشركة أو تخفيضه عن 10 ملايين دولار، بعد أن كانت هيئة الشراء العام قد اعتبرت هذا الشرط غير مألوف ويحد من المنافسة.
عملية تجهيل
عملية التجهيل التي خاضها الوزير في تقريره، إنسحبت على الفقرة التي تناول فيها رفض هيئة الشراء لنتائج جلسة التلزيم الثانية التي رست مؤقتاً على التحالف. فلم يتطرق لأسباب هذا الرفض، ولا حمّل التقرير بالمستند الذي يبرز هذه الأسباب، مع العلم أن الهيئة بعد إطلاعها على ملف مستند التعريف بـCOLIS PRIVE إكتشفت أن الشركة الأم «لا تقوم بإدارة مكاتب بريد، بل تعنى بنقل الطرود لصالح الشركات التجارية أو الأفراد عن طريق موقع شبكة الإنترنت ونقاط ترحيل، وشبكة من التجار الأعضاء»، إضافة لكونها وشريكها المسؤول أي «ميريت انفست» لم تقدما ما يثبت خبرة عملية في تشغيل الخدمات البريدية».
مع أن وزير الإتصالات كان قد هلل لنتائج جلسة التلزيم حينها، لم يكن أمامه خيار سوى الإنصياع لقرار هيئة الشراء العام بإلغاء هذه المزايدة. ولكن بدلاً من أن يعيد المزايدة بما يسمح بمشاركة الشركات البريدية التي تملك المؤهلات المنصوص عنها بدفتر الشروط، عدّل الشروط بشكل يفتقر وفقاً لتوصيف ديوان المحاسبة لـ»الموضوعية، الشفافية والنزاهة»، ليحل مكانه دفتر شروط مطابق لمؤهلات التحالف نفسه.
وبعد أن كانت المزايدة تشترط أن يكون لدى العارض «الخبرة في تقديم وتشغيل الخدمات والمنتجات البريدية، والخدمة الشمولية وإدارة المرفق على صعيد بلد او مقاطعة»، حُدد موضوع الترخيص في دفتر الشروط الأخير «بنقل مواد المراسلات وأو الطرود وأو الطرود البريدية وأو الرزم الصغيرة». وهذا ما جعل تقرير ديوان المحاسبة يطرح السؤال عن كيفية تعديل الإدارة لدفتر شروط يفترض أن يكون قد تم وضعه تماشياً مع حاجات تنوي تلبيتها أو أهداف تتوخاها من ذلك؟
أسوأ السقطات
إلا أن تناول تقرير الوزير مسألة توفر شروط العارض الوحيد في المزايدة الثالثة التي قبل بنتائجها. وهنا كانت أسوأ سقطات التقرير. إذ إن الوزير قرّر في هذا المقطع أن يلجأ إلى تقنية COPY PASTE. فنسخ ما ورد في كتابه الأول الذي توجه به لديوان المحاسبة لطلب موافقته على نتائج المزايدة، من دون أن يتكبد عناء القيام بقراءة ثانية لمضمون المقاطع المنسوخة. واستهل هذه الفقرة بإعادة زملائه الوزراء إلى المستند رقم 6 الذي يتحدث عن إستناده إلى تقرير هيئة الشراء العام حول قبول العارض الوحيد. ليتبين أنّ المستند رقم 6 في التقرير المرفوع، يعيد القارئ إلى مستند القرار الثاني الصادر عن ديوان المحاسبة برفض نتائج التلزيم بتاريخ 5 تشرين الأول.
أسوأ ما في الأمر، أن هذه السقطة وردت في معرض المحاولة التي يقوم بها القرم لإبطال واحد من الركائز التي استند إليها الديوان في رفض نتيجة المزايدة، أي عدم توفر شروط قبول العرض الواحد، علماً أنّ هذا المحتوى الذي قدمه القرم للديوان رفضه الديوان الذي اعتبر أن «الشرط الطارئ وغير المتوقع، غير متوفر في الصفقة، طالما أنّ الجهة الشارية كانت على علم منذ سنوات بإنتهاء مدة التلزيم السابق من دون أن تتخذ الإجراءات اللازمة في حينها. كما أن الطابع الملح لا ينطبق في الحالات التي لا يتوفر فيها اي عامل طارئ أو غير متوقع. ولا يوجد طبعاً خطر داهم على الحق بالحياة او الأموال العامة او الخاصة، ومدة الصفقة تسع سنوات بما يتعارض تماماً مع القول بأنها تهدف إلى معالجة أمور طارئة وملحة أو التصدي لخطر داهم».
دراسات متأخرة؟
في المقابل، ما أضافه الوزير في تقريره حول إعتماد المديرية العامة للبريد على دراسة بيان الدخل الشامل لليبان بوست من عام 2010 ولغاية عام 2021، كدراسة أوّلية عن السوق البريدية اللبنانية، وربطه بالمستند رقم 9 في التقرير، تبيّن انه يتعلّق بدراسة حديثة جرت خلال الشهر الحالي. وهنا يشرح مصدر قانوني عدم جواز «تحوير القانون من خلال إبراز دراسات لاحقة. والدراسات التي يفترض أن تجرى قبل إجراء التلزيم لا يمكن أن تجرى بعد إجراء التلزيم، لأنه ينتفي الهدف منها. إذ إن الدراسة قبل التلزيم تنوّر الدولة في كيفية تعاقدها، والعارضين في كيفية تقديم عروضهم، بينما الدراسة بعد التلزيم هي تغطية لعقد صار، وتعتبر تزويراً».
هذا مع العلم أنّ الأرقام التي أوردها المستند رقم 9، ليس فيها ما يبين صحة نسبة العشرة بالمئة التي حددت في مخطط تقاسم الإيرادات، هذا بالإضافة إلى كون مضمون الدراسة يرتكز فقط على نقل الطرود والتجارة الإلكترونية.
كما أن الوزير لم يرد على ذكر هذه الدراسة لا أمام الديوان ولا هيئة الشراء العام. وبدا واضحاً عدم توفر مثل هذه الدراسة من خلال تعديل الأرقام ثلاث مرات في ثلاثة دفاتر شروط أعدت لمزايدة واحدة.
أين مصلحة الدولة؟
لنصل إلى خلاصة تقرير الوزير الذي يرى بأن «مصلحة الدولة العليا» تقتضي إيجاد حل جذري للموضوع. فيتبيّن أن الحل الذي ينشده القرم هو كسر قرار الديوان من خلال قبول تفويضه توقيع العقد مع التحالف أولاً. وإلا طلب القرم التمديد لليبان بوست مع ربط الأمر بإطلاق مزايدة جديدة، إشترط على المجلس تحديد موضوعها «بإطلاق مزايدة البريد للطرود وأو الطرود البريدية، وأو الرزم، وأو التجارة الإلكترونية، وأو مواد المراسلات»، وهذا ما يحدد هدفه إما بإرساء العقد على التحالف الآن أو في أي مزايدة تطرح لاحقاً. في وقت يحيل الوزير على المجلس مجدداً واجبه الذي حدده له المجلس منذ شهر نيسان الماضي بتأسيس شركة بريد تدار محلياً.
تخلص مصادر متابعة إلى أن سلوك القرم يوحي وكأنه يحاول أن يطبق نظرية «الوزير القاضي»، وهي النظرية التي كانت سائدة في فرنسا في سنة 1790. وهو في إسترساله بهذا الدور عدّل شروط المزايدة عندما لم تأت مؤهلات التحالف مطابقة لها. وعندما قرر ديوان المحاسبة بالإستناد إلى هيئة الشراء العام رفض نتائج المزايدة الثالثة، إنصبّت جهوده على التشكيك بملاحظات الهيئة كمقدمة لنسف الأساس الذي بنى عليه الديوان تقريره.