بلغةِ «ولدي الحبيب، والدي المُلْهِم»، وفي لحظة وجدانيةٍ ستحفر في تاريخ المختارة وزعامتها بجذورها الضاربة لأكثر من 300 عام، سلّم وليد جنبلاط راية «الحزب التقدمي الاشتراكي» إلى ابنه تيمور تحت عنوان «المسيرة مستمرة»، من «المعلّم» كمال جنبلاط (اغتيل العام 1977) إلى الحفيد الذي سيحمل شعلةً لم تطفئها نار «اغتيالات ولا تصفيات ولا مؤامرات».
بصوتٍ يختزن كل أحزانِ لحظةٍ قَدَرية لم تفارقه لحظةً حين حَمَلَ قبل 46 عاماً على كتفيه عباءةً ملطخة بدم الوالد الشهيد، وبعينيْن حبستا دموعاً كأنّ بها خُطّت رسالةُ التسليم والتسلّم بوصاياها التي ائتَمَنَ الأبُ الابنَ عليها ليكون الحامل الجديد للإرثِ الجنبلاطي أميناً لها، أكْمَلَ وليد جنبلاط نقْلَ كل خيوط الزعامة، نيابياً وحزبياً وشعبياً إلى تيمور ليتحوّل الوالدُ «المُلْهِمَ والمرجع والرمز» الذي تخلّى عن دفّة القيادة لا ليتقاعد بل ليحجز للحزب مقعداً في مستقبلٍ…عنوانه تيمور.
25 يونيو 2023 وفي المدينة الكشفية في عين زحلتا حيث انعقد المؤتمر الـ49 للحزب التقدمي الاشتراكي لانتخاب رئيسه الجديد بعد شهر من استقالة جنبلاط الأب، تاريخٌ لن يُمحى من ذاكرة المختارة «التي صمدت وبقيت»، ولم يسبق أن شهدت «تَداوُلاً» للزعامة من خارج لعنة الاغتيال ولعبة القدَر.
في كلمته التي اختصر فيها وليد جنبلاط 46 عاماً، بنضالاتها ونجاحاتها وإخفاقاتها والتي أوصى فيها خَلَفَه بأن يكمل المسيرة وفق ثوابت المؤسِّس المعلّم، وبين سطور الأوراق التي حَمَلَها، لم يَلُحْ خريف زعامةٍ بل ربيعٌ أراده الأب أن يزهّر «على حياته»… وعلى امتداد الدقائق القليلة التي ودّع فيها مركز القرار، كان الوالد يضع بين يديْ تيمور وديعةً دُفِعَ ثمنها دماً سُفك في 1977 ومنه تسلّم وليد زعامةً كم تمنّى لو آلت إليه «يداً بيد» من «المعلّم».
لم يكن مجرّد عناقٍ لتيمور الذي توجَّه إليه «يا ابني، ايها الرفيق، ايها الرئيس». فوليد جنبلاط بدا وكأنه يضع في عنق نجله أمانةً من التاريخ وللتاريخ.
وفي خطوات قليلة فصلت المنبر عن مقاعد الحضور في اليوم المشهود الذي جَمَع كل أفراد العائلة الصغيرة كما الحزبية، كان الوالد يخطّ نهجاً غير مألوف في أدبيات السياسة اللبنانية وأعرافها التي ندر أن عرفت انكفاءً طوعياً عن لعبة السلطة وكراسيها التي تخلّى عنها جنبلاط الأب تباعاً منذ 2018 حين اختار تيمور لخوض الانتخابات النيابية بديلاً عنه لينسحب بعدها من رئاسة «كتلة اللقاء الديموقراطي»، إلى أن ترجّل عن قيادة «التقدمي» في بيان الاستقالة قبل شهر.
أمس، انتهت مرحلةٌ رسم وليد جنبلاط (مواليد 7 أغسطس 1949) بعنايةٍ «إلى أين» ومع مَن يريدها أن تكمل، هو الذي اتخذ القرار منذ 2015 بتوريث تيمور (مواليد 1982) ولكنه تريَّث إلى أن نضجت كل الظروف التي حَفَرَ طريقها تباعاً منذ مشهدية 19 مارس 2017 في المختارة (خلال الذكرى 40 لاغتيال كمال جنبلاط) حين أَلبس نجله كوفية الزعامة، ليورّطه تدريجاً في أدوار قيادية أعلن أمس أنه قبِلها «بإرادة مني حرّة واعية وفاهمة».
وقال وليد جنبلاط في كلمته التي ضمّنها ما يشبه «المانيفست»: السياسي الذي سيعمل تيمور بموجبه: «منذ 46 عاماً كانَ التحدّي: نكونُ أو لا نكون، وبفضلِكم أيها الرفاقُ والرفيقات، بفضلِ المناضلين والمناصرين، بفضلِ ثوار الـ 58، بفضلِ أبطالِ جيشِ التحريرِ الشعبي، بفضلِ الكشاف التقدمي ومنظمة الشباب والاتحاد النسائي، بفضلِ الجماهير الوطنيّةِ والحركةِ الوطنيّةِ، بفضلِ الشخصيّاتِ الوطنيّةِ على اختلافِها وتنوّعِها، بفضلِ الجبلِ والاقليمِ وسائرِ المناطق الوطنية والعربية، دونَ استثناءٍ، بقينا، وصمدنا، وانتصرنا، وبقيت المختارةُ وبقي الحزب».
وأضاف: «خلال 46 عاماً من النضالِ والتضحيات، 46 عاماً من المواجهاتِ السياسيّةِ والعسكريّةِ، 46 عاماً من التحديّاتِ والمؤامرات، 46 عاماً من الاغتيالاتِ والتصفيات، 46 عاماً من الثوابتِ والمتغيرات، 46 عاماً من التاريخِ، بقيت المختارة، وبقي الحزب».
وتابع: «وإذ شاهدنا سوياً، بعضاً من المحطاتِ المحليّةِ والاقليميّة، التي رافقت هذهِ المسيرة، بعضاً من لقاءاتِ الضرورة، بعضاً من لقاءاتِ الأمرِ الواقعِ الانتخابيّةِ أو السياسيّة، إلى جانبِ محطاتٍ من التاريخِ النضالي المشتركِ المجيد مع مَن أسقطنا معهم اتفاق السابع عشر من مايو (مع اسرائيل)، أتمنى أن تستمرَ المسيرة مع التأكيدِ والتذكيرِ بالتالي:
1 – شعارُنا كانَ في النضالِ من أجلِ عروبةِ لبنان، وتطورِه الديموقراطي، وضرورةِ إلغاءِ الطائفيّةِ السياسيّةِ وصولاً إلى المساواةِ بينَ المواطنين.
2 – هدفُنا كان في تحقيقِ النظامِ الاشتراكي الأكثرَ إنسانيّة، مع عدالةٍ اجتماعيّةٍ متطورةٍ وشاملة.
3 – وفي هذا الصدد، باتَ الحفاظُ على القطاع العام، وتطويرِه، في الصحة، والتعليم والجامعة اللبنانيّة وغيرها من المجالاتِ ضرورةٌ لحمايةِ المواطنينَ من الاحتكارِ، ومن التمييز.
4 – إن الإصلاحَ الشاملَ الجذري أكثرَ من ضرورةٍ بعيداً عن الوصفاتِ التجميليّةِ للهيئاتِ الدوليّة، التي خرّبت بلاداً بأسرِها، وسبّبت المآسي، إذا لم نقُل حروباً تقفُ من ورائِها الشركاتِ المتعدّدةِ الجنسيّاتِ لنهبِ الثرواتِ وقد يكونُ السودان اليوم أحد ضحاياها.
5 – الحوارُ هو السبيلُ الأوحدُ للوصولِ إلى التسويةِ وتكريسِ المصالحةِ.
6 – إن تحريرَ الأرضِ في مزراعَ شبعا وتلالِ كفرشوبا من الاحتلالِ الإسرائيلي، دونَ قيدٍ أو شرط، هو أمرٌ متلازمٌ مع ترسيمِ الحدود.
7 – إن تقويةَ الجيش وتعزيزَ قدراتِه، إلى جانبِ خطةٍ دفاعيّة، تتوحدُ فيها، وبشكلٍ مرن، الأمرةُ وقرارُ الحرب والسلم هو ضرورة، كما أن تعزيزَ القوى الأمنيّة الأخرى، هو حمايةٌ للوطنِ والمواطنين.
8 – إن رفضَ التقسيم أو الفيديراليّة، لا يعني، التهرّبَ من تحقيقِ اللامركزيّةِ الاداريّةِ والانماءِ المتوازن.
9 – إن التضامنَ مع حقِ الشعوبِ في الحريّةِ والعيشِ الكريم هو حقٌ وواجب، وكيف إذا كانَ الشعبُ السوري في مواجهةِ الطغيانِ والاستبداد؟
10 – فلسطين: ما يجري في فلسطين هو نهايةُ وهم الدولتين، ما يجري في فلسطين هو إجهاضٌ للمبادرةِ العربيّةِ التي نصّت على الأرضِ مقابلَ السلام، إذ أن الأرضَ تُصادَر، من الجولانِ إلى الضفّة، إلى فلسطين الـ 48 إلى القدس، والسلامُ أشبهُ بالسرابِ في الصحراء. وقبل فواتِ الأوان، ادعموا الشعب الفلسطيني بالمال والسلاح تفادياً لتكرارِ كارثةِ مشروعِ التقسيم سنة 1947 والهدنة 1948».
وتوجَه إلى «الحبيب تيمور، إن الحياةَ انتصارٌ للأقوياء في نفوسِهم لا للضعفاء»، هكذا أوصانا المعلم كمال جنبلاط. سِرْ ولا تخف، والله معك، مهما كانت تقلباتُ الزمن، وتغيّر الأحوال، ومفاجآت الأقدار، كانت المختارة وستبقى، وكان الحزبُ الاشتراكي وسيبقى».
بعدها تحدث رئيس التقدمي المنتخَب تيمور جنبلاط، فقال «بإرادة مني حرّة واعية وفاهمة، ومن هذا المكان الذي حضنَ أبطالاً ضحّوا بأنفسهم، وصنعوا الانتصارات التي حفظت هوية لبنان ووحدته وعروبته وتنوُّعه، وصنعت لاحقاً مصالحته الحقيقة، أُجدِّد العهد لفكرة كمال جنبلاط الإنسانية الحرة الجامعة والمتنوّعة ولحزبه ولكل شهدائه ومناضليه، الذين كانوا رمز الوفاء والشجاعة والشرف، جيلاً بعد جيل، وانتصروا».
وتوّجه إلى الرفيقات والرفاق «أشكر ثقتكم، وأعرف صعوبة المهمة، لأنها أولاً مهمة الحفاظ على إِرث فكري وسياسي ونضالي كتبتْه شهادات وتضحيات، ولأنها مهمة التحديث والتطوير مع الأجيال عبرَ قراءة التاريخ وتأكيد مرجعية صانِعيهِ، للتطلع نحو المستقبل، والمستقبل لا يكون بإنكار الماضي ولا بالتنكر لما تحَقَّق، بل بالبناء على كل إنجاز وتحصينه، والاستفادة من التجارب كي نرسم رؤية المستقبل بأخطاء أقل وكي لا نكون مثل البعضِ الذي يرفضُ التعلم».
وتابع: «سوياً سنحمِلُ المشعل أيضاً، سنحمِله مع مَن سبقنا، سوياً سنرفعُ عالياً راية الحريات، ونحفظ تراثَ المعلم وإرثَ التنوع، سنَحمِل معاً قيمَ العروبة الديموقراطية المنفتحة في لبنان وعالمنا العربي في مواجهة التحجر والعنصرية، سنرفع عالياً راية فلسطين، سنحمِل فكر الاشتراكية الانسانية، سنحمِل قضايا العدالة الاجتماعية، سنحمِل معاً طموح التغيير الديموقراطي الحقيقي الذي كنَّا اول من بدأه.
وإنني إذ أنحني احتراماً امام تضحيات الرفاق المؤسسين والمناضلين والشهداء، أدعوكم جميعاً الى تكريس حقيقة الحزب روحاً واحدة، والى ردم الهوَّة بين الأجيال والنضال سوياً تحت راية الحزب الذي يحتاج الجميع ولا تكتمل شخصيتُه الا بالجميع، والى التمسك بالصدق في علاقاتنا بعيداً عن التعصب لأنه نقيض العقل، والتّضحية في سبيل الحزب وافكاره، وفي سبيل الوطن وكرامة المواطن بعيداً عن الشَخصانية التي تُدمّر روح الجماعة، والى النضال بقناعة لأننا لسنا حزباً عابراً، بل حزب تضحية وعلٍ مباشر، وإلى عيش روح العصر، كما كان يقول كمال جنبلاط».
ولفتَ جنبلاط إلى «أنَّ حزبنا سيبقى حزبَ النضال لأجل لبنان عربي، علماني، ديموقراطي، ولبنان العدالة الاجتماعية، لبنان الحريات، لبنان التجربة التي لا تزال تستحق، لبنان التوزيع العادل للثروة، لبنان المواطنة الحقيقية، لبنان المُساواة، لبنان المحاولة الديموقراطية التي يجب ان تستكمل، لبنان نصير القضية الفلسطينية العادلة، لبنان نصير حقوق الشعوب العربية في الديموقراطية والحرية والإصلاح السياسي، لبنان المدني المتنوع، لبنان العمل لا لبنان التعطيل والشلل، لبنان المؤسسات لا لبنان الشغور، لبنان الانفتاح لا لبنان العزل والانعزال، ولبنان الحوار الحقيقي».
وتابع «لهذا اللبنان، سنمضي في دروب العمل لأجل إتمام استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية بعيداً عن جبهات الرّفض من هنا وهناك، ومن أجل إصلاح اقتصادي مالي اجتماعي اداري، ومن أجل معيشة المواطن وحقوقه وكرامته».
وختم متوجها إلى والده «في هذا اليوم، هنا معكم أيها الرفيقات والرفاق، أتوجه إليك بصدق الابن، أخاطبك باسمك الذي يعلو فوق كل الألقاب والتسميات والمواقع، يا وليد جنبلاط، يا والدي، أُقّرُ وأشهَد، أنا ومعي كل رفاقي ورفيقاتي في الحزب أن مسيرتك التي زَيَّنْتَها بصوت العقل، وشجاعة الارادة، وحكمة الرأي، ووضوح الانتصار وجمال التسوية، هذه المسيرة العابقة بالشرف والوفاء هي مسيرة تستحق العَناء من أجل الناس الذين ليس على صدورهم قميص، لأجل الأحرار والناس الطيبين الأبرار، من أجل هذا الوطن. وستبقى يا وليد جنبلاط دائما القُدوة والمثال، ستبقى المُلْهِمَ والمرجع والرمز، لنردد معك: المسيرة مستمرة، مسيرةُ الأجداد، مسيرة كبيرنا كمال جنبلاط، وسوف نَسير وأنت معنا كي نطمئنّ، وسننتصر وأنت معنا، لا خوفَ على المستقبل، فالرجال رجال، والمبادئ مبادئ، والنضال مستمر».
وتوالت التهاني لجنبلاط الابن بانتخابه رئيساً للتقدمي بالتزكية، وقد تلقى اتصالاً من السفير السعودي وليد بخاري الذي أكد على «العلاقة التاريخية التي تربط المملكة والمختارة».