بينما كان الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله يتوعّد إسرائيل بردّ حتمي على اغتيال فؤاد شكر، أحد أبرز قادته العسكريين، كان الآلاف من اللبنانيين يتدفقون إلى وسط بيروت لحضور حفل استعراضي مبهر، في مشهد يجسّد اليوم بلدا منقسما أكثر من أي وقت مضى حول الحرب والسلام.
وتقول أولغا فرحات (45 عاما)، وهي ناشطة في مجال حقوق الإنسان، غداة حضورها الحفل لوكالة فرانس برس “أحزن لرؤية الناس يموتون في جنوب لبنان وفي غزة، لكن المقاومة ليست في حمل بندقية والقتال فحسب، الفرح والفن والاحتفال بالحياة هو أيضا شكل من أشكال المقاومة”. وتضيف “أنا من جيل نشأ وسط الحرب في لبنان وترعرعت في منزل يؤمن بالقضية الفلسطينية، لكنني أقول اليوم “لبنان أولا”. وتوضح “إنسانيّا أنا مع الشعب الفلسطيني حتى أقصى الحدود، لكننا تعبنا ونريد أن نعيش”.
وكانت فرحات في عداد قرابة ثمانية آلاف شخص تدفقوا مساء الخميس إلى واجهة بيروت البحرية لحضور حفل استعراضي راقص قدّمته فرقة مياس اللبنانية، بعنوان “قومي”، جسّدت فيه الصراعات والوجع الذي تعيشه بيروت، وخصّصت إحدى لوحاته لجنوب لبنان.
وأقيم الحفل، الذي استُهل بمفرقعات نارية ضخمة زيّنت سماء العاصمة، بعد مرور ساعات على تشييع حزب الله قائد عملياته في الجنوب فؤاد شكر وتوعُّد نصرالله بردّ “حتمي” على إسرائيل التي يتبادل مقاتلوه القصف معها عبر الحدود اللبنانية، منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، دعمًا لحركة حماس.
وبعدما ردّد الآلاف من مناصري حزب الله في قلب الضاحية الجنوبية “الموت لأميركا” و”الموت لإسرائيل”، رافعين رايات الحزب الصفراء، في دعوة إلى الانتقام بعد مقتل شكر، تمايل الآلاف في بيروت على بعد بضعة كيلومترات خلال حفل مياس، مردّدين “لبيروت من قلبي سلام لبيروت”. وقتل شكر بضربة إسرائيلية على حارة حريك ليل الثلاثاء أسفرت كذلك عن مقتل مستشار إيراني برفقته إضافة إلى خمسة مدنيين بينهم الطفلان الشقيقان أميرة (6 سنوات) وحسن فضل الله (10 سنوات).
وفي مقطع فيديو تداولته وسائل إعلام محلية ظهرت والدة الطفلين الثكلى وهي تقول إن طفليها “فداك يا سيد”، في إشارة إلى نصرالله. وتقول فرحات “ثمّة انفصام في البلد بين مجموعة لا تعنيها الحرب وتشعر بأن ثمة قوة متمثّلة في حزب الله تريد أن تفرض هويتها الجماعية عليها، وأخرى تخوض الحرب لإثبات وجودها”. وتضيف “أفهم وجهتيْ النظر، لكننا تعبنا من الحروب.. نريد الفرح ونريد الحياة”.
ودفع التصعيد المستمر منذ عشرة أشهر قرابة مئة ألف لبناني إلى النزوح من بلداتهم خصوصا الحدودية التي لحق بعدد منها دمار هائل لا يتسنى لوسائل الإعلام توثيقه بسبب خطورة الوضع. وقتل في لبنان 542 شخصا على الأقل بينهم 350 مقاتلا من حزب الله و114 مدنيا، استناداً إلى بيانات رسمية وحزب الله.
وفي الضاحية الجنوبية لبيروت يؤكد حسين نصرالدين (36 عاما)، وهو بائع في محل ألبسة، “لسنا من دعاة ثقافة الموت، نحن نحبّ الحياة شأننا شأن الناس كلهم.. لكن إذا فُرضت الحرب علينا مع إسرائيل فمن الواجب أن نستشهد”. ويضيف “هذا ليس بموت بل شهادة. المهم ألا ينجح المشروع الصهيوني في البلد”. ويرى أنه “من المعيب إقامة الحفلات” بينما “أهلنا في الجنوب يُهجّرون من بيوتهم وأطفالنا يُقتلون”، مضيفا “المطلوب مواساة الناس”.
وفي يونيو الماضي أثارت كلمة ألقاها رئيس كتلة حزب الله البرلمانية محمّد رعد، الذي قتل ابنه في جنوب لبنان قبل أشهر، جدلاً بعدما حمل على “بعض النزقين من اللبنانيين” الذين “يريدون أن يذهبوا إلى الملاهي وشواطئ البحار، ويريدون أن يعيشوا حياتهم”.
وردّ عليه المئات من اللبنانيين عبر مواقع التواصل الاجتماعي بأشرطة فيديو مستفزة تنقل حفلات على البحر وموسيقى وأغاني ورقصا، مع وسم #لبنانلايريدالحرب، أو #منحبالحياة (نحب الحياة). وليل الخميس، إثر انتهاء الحفل الاستعراضي في بيروت، أثار تعليق نشره النائب مارك ضو على منصة إكس انتقادات واسعة من مناصري حزب الله، وقد قال فيه “أقوى ردّ على إسرائيل حضارة الحياة والجمال”.
وقال ضو ردّا على سؤال لفرانس برس “الإشكالية القائمة تعتبر أن الشجاعة والمواجهة تُختصران في سلاح وعنف، في حين أن الصراع في وجه العدو الإسرائيلي متعدّد الأوجه”. وأضاف النائب، الذي انتُخب إثر حركة احتجاجات شعبية شهدها لبنان ضد الطبقة السياسية الحاكمة، أنه يرفض “اختصار فكرة لبنان في ساحة حرب وعسكرة وفي قدرتنا على العنف”، معتبرا أن قيمة لبنان تكمن “في الثقافة والتنوّع والانفتاح”.
ويثير فتح حزب الله، القوة السياسية الأبرز التي تحتفظ بترسانة سلاح ضخمة، جبهة من جنوب لبنان ضد إسرائيل “إسنادا” لغزة، والخشية من تحوّل التصعيد عبر الحدود إلى حرب، انتقادات من معارضيه الذين يؤاخذون الحزب على تفرّده بقرار السلم والحرب.
وليس الانقسام بجديد في بلد قائم على المحاصصة الطائفية والمحسوبيات والفساد. وتقول صونيا نكد، الباحثة والمدرّبة في بناء السلام وحلّ النزاعات، “لا شيء يخفّف من الانقسام القائم في لبنان مهما بلغ حجم المأساة، ذلك أن كلّ طرف سجين موقفه”. وترى أن كلّ طرف “لا يريد الاعتراف بإنجازات الآخر، ويريده نسخة مطابقة منه ليتمكّن من العيش معه، فيما الجهتان على طرفي نقيض” في كلّ شيء.
وعلى وقع التوترات أعلنت خطوط طيران أجنبية كبرى تجميد أو خفض رحلاتها إلى بيروت. لكن العديد من اللبنانيين المغتربين مازالوا يصلون إلى المطار حيث ينتظرهم أحباؤهم بالدموع. في المقابل قطع آخرون إجازاتهم خوفا، من بينهم رباب أبوحمدان التي تستعدّ للعودة إلى الخليج حيث تقيم مع عائلتها. وتقول “توترت كثيرا في الأيام الماضية. كنت أتمنى مواصلة إجازتنا حتى نهاية أغسطس الجاري”. لكنها تضيف “رغم الظروف الصعبة، يبقى لبنان الوجهة الأفضل لقضاء الإجازة مع العائلة والأصدقاء”.