تتواصل أزمة البحث عن رئيس يحظى بدعم الأغلبية النيابية في لبنان، فهل يكون التدخل الدولي والإقليمي الحل الوحيد لشغل المنصب الشاغر منذ أكثر من 8 أشهر؟
كان لبنان قد شهد، منذ سبتمبر/أيلول 2022، 12 جلسة برلمانية كان آخرها يوم 14 يونيو/حزيران 2023، لانتخاب رئيس للبلاد خلفاً لميشال عون الذي انتهت ولايته في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2022، دون أن يتفق الفرقاء في البلد المأزوم على اختيار الرئيس.
وكانت جلسة البرلمان اللبناني رقم 12، يوم الأربعاء 14 يونيو/حزيران، قد شهدت فشل كل من سليمان فرنجية وجهاد أزعور في الحصول على الأصوات الكافية لشغل المنصب الشاغر، لتتأجل الأمور مرة أخرى.
كيف تتكرر مشكلات لبنان بهذه الطريقة؟
مجلة The National Interest الأمريكية نشرت تحليلاً عنوانه “المشكلات الرئاسية في لبنان وصلت لمستوى دولي مرة أخرى”، يرصد التدخلات الدولية والإقليمية، وبخاصة المساعي الفرنسية، لإيجاد حل جذري لأزمة الرئاسة في لبنان.
والواضح هنا هو أن مشكلات لبنان وحلوله السياسية تميل بقوة إلى التكرار، ويزداد هذا الواقع وضوحاً من خلال الفشل المستمر في انتخاب رئيس جديد – وهو نطاق يتخذ فيه المجتمع الدولي مرة أخرى بعض التحركات المهمة للوصول لإنقاذ فعّال للبلاد.
وفي الواقع، بينما يستمر خلاف بيروت حول المرشحين وغيرها من الخلافات طويلة الأمد، من المرجح أن تتوقع النخب السياسية في البلاد وتأمل في الاعتماد على داعميها الدوليين لحل المشكلات اللبنانية حلاً صارماً. وعلى الرغم من أنَّ العمل الدولي غير مرغوب فيه، لكن من المحتمل أنه السبيل الوحيد لتشكيل حكومة جديدة في لبنان اليوم بالنظر للعقبات السياسية الحالية.
وتأتي الجهود الفرنسية الأخيرة في طليعة العمل الدولي في لبنان اليوم. فقد أرسل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخراً مبعوثه الجديد إلى لبنان – وزير الخارجية والدفاع الأسبق جان إيف لودريان – للقاء النخب اللبنانية وتشجيع الحوار البنّاء حول الملف الرئاسي. ووصف المبعوث رحلته إلى لبنان بأنها “مهمة استشارية… لضمان خروج البلاد من المأزق السياسي”.
وفي هذا السياق، كان اللبنانيون يترقبون جلسة البرلمان الأخيرة، أملاً في أن تسفر هذه المرة عن انتخاب رئيس للجمهورية بعدما انحصرت المنافسة بين مرشح المعارضة جهاد أزعور، ومرشح الثنائي الشيعي “حزب الله” و”حركة أمل” سليمان فرنجية.
فما كان يميز جلسة البرلمان المرتقبة هذه المرة واتفاق القوى المعارضة على ترشيح أزعور للرئاسة، بعد اتفاق أغلب القوى المسيحية عليه كمرشح “مختار” لحل الأزمة المالية والاقتصادية التي يشهدها لبنان.
وحصل أزعور خلال الجلسة على تأييد 59 صوتاً من أصل 128 نائباً في البرلمان في تصويت أولي وهو ما يقل عن نصاب 86 صوتاً المطلوبة للفوز بتصويت من الجولة الأولى، بينما حصل سليمان فرنجية المدعوم من حزب الله وحلفائه على 51 صوتاً.
وأنهى رئيس البرلمان نبيه بري، وهو حليف لحزب الله، الجلسة بعد انسحاب حزب الله وحلفائه ليعطلوا بذلك نصاب الثلثين المطلوب لإجراء جولة ثانية من التصويت يمكن لمرشح أن يفوز فيها بدعم 65 نائباً. وطالب بعض النواب المؤيدين لانتخاب أزعور بإعادة إحصاء الأصوات أو إجراء تصويت جديد بعد أن ورد أن ورقة اقتراع مفقودة لكن بري رفض وقال إن هذا الصوت لن يغير النتيجة. وهاجم حزب الله وحلفاؤه أزعور ووصفوه بأنه مرشح المواجهة. كما وصفه مفتي الشيعة دون أن يذكره بالاسم بأنه مدعوم من إسرائيل.
ما موقف فرنسا من أزمة الرئيس اللبناني؟
ومع ذلك، من المثير للاهتمام، أنَّ لودريان قال إنه لن يضغط لصالح أي من المرشحين للرئاسة خلال زيارته – بما في ذلك طرف ثالث يمكن أن يؤدي إلى توافق بين الكتل السياسية الرئيسية في لبنان.
هذا الإعلان يعتبر مفاجأة بالنظر إلى كون باريس قد دعمت بصورة متكتمة ومن خلف الكواليس سليمان فرنجية المدعوم من حزب الله منذ أشهر، بعد دعمها العلني للعناصر الإصلاحية في السنوات الأخيرة.
ومن ثم فإنه من السابق لأوانه معرفة إذا كانت تعليقات لودريان تعكس تحولاً آخر في موقف فرنسا، على الرغم من أنَّ فرص نجاح فرنجية هي بالتأكيد موضع شك، حتى في أحسن الأحوال، بعد الأداء القوي لوزير المالية السابق وكبير مسؤولي صندوق النقد الدولي جهاد أزعور في التصويت الرئاسي الأخير في 14 يونيو/حزيران.
ونقل لودريان هذه الرسالة إلى كل من الفاعلين السياسيين اللبنانيين الرئيسيين، حيث التقى بقادة كل من الأحزاب السياسية الرئيسية والمعسكر الإصلاحي المستقل، البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، ورئيس الوزراء نجيب ميقاتي. والتقى أيضاً بالعماد جوزيف عون، قائد الجيش اللبناني والمرشح الرئاسي المفضل لدى العديد من أصحاب المصلحة العاملين في ملف لبنان.
وأوضحت بعض النخب السياسية اللبنانية أنَّ الضغط الدولي غير ضروري. وبعيداً عن التزام الحذر في تصريحاته، قال سمير جعجع، رئيس حزب “القوات اللبنانية” المحافظ، بعد لقائه مع لودريان: “الحل لا يحتاج إلى تدخل فرنسي أو أمريكي أو إيراني… المطلوب قرار داخلي سيادي”.
وأعرب رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل عن مشاعر مماثلة في لقائه مع لودريان أيضاً. والقوات اللبنانية والتيار الوطني الحر كلاهما حزبان مسيحيان رئيسيان في لبنان كان معارضين لبعضهما حتى وقت قريب.
وجاء الضغط الفرنسي في أعقاب اجتماع في 16 يونيو/حزيران بين ماكرون وولي العهد السعودي محمد بن سلمان في باريس. وبحسب التقارير، ناقش الزعيمان مشكلات لبنان مطولاً ودعوا إلى إحراز تقدم في الملف الرئاسي.
وبعد أيام قليلة، بدأت تظهر في وسائل الإعلام اللبنانية شائعات عن مؤتمر محتمل في الرياض في أغسطس/آب أو سبتمبر/أيلول. ومن المفترض أنَّ قطر ومصر ستسهمان في إنشاء ما يُوصَف بـ “الدوحة الجديدة” – في إشارة إلى اتفاق الدوحة لعام 2008 التي أنهت أزمة سياسية استمرت 18 شهراً وتفاقمت إلى أعمال عنف.
ماذا عن موقف السعودية وإيران؟
ومن ثم، بينما تزعم النخب السياسية اللبنانية والجهات الفاعلة الدولية أنها تدعم مبادرة يقودها لبنان، فإنَّ القوى العالمية والإقليمية هي من تُحرِّك دفة القيادة في الخلفية. ووصف ولي العهد السعودي علناً القضايا الرئاسية اللبنانية بأنها “شأن داخلي” ودعم الرياض تدريجياً للخروج من شؤون البلد المتوسطي، ومع ذلك فإنَّ ولي العهد له مصلحة راسخة في حل النزاعات لتجنب عنف سياسي آخر مثل الذي اندلع في عام 2008. وبالتأكيد يعتبر الوصول لمبادرة بقيادة أو بدعم سعودي لحل الخلاف السياسي في لبنان أمر منطقي، مع تحول المملكة نحو البراغماتية والدبلوماسية لدعم أجندة التنمية الاقتصادية لرؤية 2030.
ومن المحتمل أن يفهم أصحاب المصلحة الرئيسيون الآخرون هذا أيضاً – بما في ذلك إيران. وسيكون السؤال المطروح في النهاية هو كيف يمكن جمع النخب اللبنانية في نفس الغرفة لعقد الصفقات السياسية الضرورية التي لا يمكن دعمها إلا بضمانات دولية. وتعكس التبادلات الدبلوماسية الأخيرة عبر المنطقة جهوداً متضافرة لتحقيق هذه النتيجة، ومنها زيارة وزير الخارجية السعودي إلى طهران ورحلة وزير الخارجية الإيرانية الحالية إلى الخليج.
ويبقى أن نرى ما إذا كانت صفقة تطبيع العلاقات الإيرانية السعودية ستساعد في تسهيل مثل هذا الاجتماع أم لا، على الرغم من أنَّ الدفء في العلاقات بين الخصمين الإقليميين يشير بالتأكيد إلى أنَّ الصفقة يمكن أن تكون إيجابية بالكامل بخصوص أية جهود سياسية لخفض حدة الوضع في لبنان لاحقاً.
وفي الواقع، بينما جادل البعض بأنَّ الرياض اختارت التنازل عن لبنان لإيران وحزب الله ضمن اتفاق إعادة التطبيع مع طهران، لا يبدو على الإطلاق أن هذه النتيجة مؤكدة بالفعل. وبدلاً من ذلك، من المرجح أنَّ أولئك الذين لديهم مصلحة في لبنان يفضلون – على الأقل – ترتيباً للوضع الراهن يؤدي إلى بعض الإصلاحات دون زعزعة استقرار البلاد أكثر.
وينطبق هذا تحديداً على القوى الإقليمية في غرب آسيا بالنظر إلى أنه لا يمكن لأي طرف الحفاظ على سيطرة كاملة على البلاد من خلال وكلائه المفضلين – بما في ذلك إيران وحزب الله بالنظر إلى المشكلات الاقتصادية السابقة.
وبالتالي، ربما يكون من المنطقي الآن أن تتجه جميع الأنظار إلى الحملة الفرنسية الدبلوماسية الحالية فيما يتعلق بجهد إقليمي لإقامة حوار بين الأحزاب بين اللاعبين السياسيين اللبنانيين الرئيسيين.
وربما لن يؤدي هذا إلى وصول فرنجية أو أزعور للرئاسة، لا سيما بالنظر إلى أنَّ كلا المرشحين يبدو مؤيداً لمثل هذا الحوار حول مرشح توافقي في هذه المرحلة. وإذا كان هذا هو الحال حقاً، فقد يصير عون الرئيس المقبل للبنان، باستثناء بعض العقبات الإجرائية والدستورية، وفهم الدعم الدولي المتفاوت لترشيحه.
ومن المتوقع إبرام صفقات بشأن قضايا أخرى أيضاً – وبالتحديد منصب رئيس الوزراء ومنصب محافظ البنك المركزي الذي سيصير شاغراً في يوليو/تموز بعد انتهاء ولاية رياض سلامة.
وتسلّط مثل هذه العملية الضوء على الطبيعة المتكررة للسياسة اللبنانية – التي تفشل باستمرار في معالجة أوجه القصور المنهجية التي تعيد إنتاج نفس المشكلات بانتظام. وقد يكون من الحكمة أن ينتهز أصحاب المصلحة الدوليون أية فرصة للحوار لمعالجة الأسباب الجذرية للقضايا المطروحة. لكن لسوء الحظ، من المرجح أن تسود الطبيعة الانتكاسية للموقف الحالي، بتغطية الجروح التي تستوجب المزيد من الاهتمام والرعاية بدلاً من معالجتها.