ما زال هذا الإتفاق رغم مرور حوالي ثلاث وثلاثين سنة يُشكّل المرجعية الأولى للاستقرار السياسي والأمني في لبنان ومحاولة حثيثة لتثبيت وحدة اللبنانيين فيما بينهم. وبكوني باحث في الشؤون السياسية والإستراتيجية لاحظت أنّ هناك قيمة سياسية قانونية دستورية حظيَ بها هذا الإتفاق والذي بات وثيقة دستورية شاملة على كافة المستويات السياسية – الأمنية – الاقتصادية – المالية – الإجتماعية. حريٌّ القول أنّ هذا الاتفاق وُلِدَ بدعم دولي إقليمي ولكن للأسف هذين الدعمين لم يستطيعا تحصين الاستقرار والاستمرار بسياسة ناشطة وفاعلة هدفها إعادة لبنان إلى الخريطة السياسية العربية الإقليمية والدولية والسبب في ذلك فيمن توّلوا تطبيق هذا الاتفاق.
جاء ما حرفيته في مؤتمر القمّة العربي غير العادي المنعقد في مدينة الدار البيضاء (المملكة المغربية) أيام 17 و20 شوال 1409هـ الموافقة لـ 23 و26 أيّار 1989م في البند الثالث ما حرفيته «وإذْ يُعبِّرْ عن بالغ إنشغاله بالتصعيد الخطير الذي تشهده الساحة اللبنانية وما أدّى إليه من خلـو سدّة رئاسة الجمهورية، وتعطّل السلطة التشريعية، وإنقسام السلطة التنفيذية، ثم تجدُّد الإقتتال الدموي على الأرض اللبنانية» كما جاء في البند السابع ما حرفيته «وبعد إطّلاعه على التقرير المقدم من اللجنة الوزارية الخاصة بالأزمة اللبنانية، عن نتائج أعمالها واتصالاتها مع الأطراف اللبنانية، وعلى توصياتها من أجل تحقيق الوفاق الوطني». وبناء على ما تقدّم صاغ المؤتمرون بنوداً سبعة أهم ما جاء فيها «مطالبة كافة الأطراف اللبنانية بإحترام وقف إطلاق النار وفق قرار مجلس الجامعة العربية الصادر في 27 نيسان 1989» كما «إدانة الإعتداءات الإسرائيلية المستمرّة على الأراضي اللبنانية وضرورة تطبيق قرارات مجلس الأمن وبخاصة القرار رقم /425/ الصادر في العام 1978…» من الملاحظ أنّ الأطراف اللبنانية لا تُجيد القراءة المتأنّية لأي حدث سياسي وإنّ التاريخ يُعيد تسلسل أحداثه تلقائياً والسبب هو تلك الممارسة السياسية الفاشلة والحاقدة والتي لا تعي أي أهمية للعمل السياسي ومندرجات «علم السياسة» وعلاقات لبنان العربية والدولية.
للتأكيد وإستناداً لوثيقة صادرة عن مجلس الأمن الدولي فقد أقّرَ في بيانيه المؤرخيّن في 7 تشرين الثاني 1989 و22 تشرين الثاني 1989، مضمون إتفاق الطائف واللذين أكد فيهما دعمه لبنود هذا الإتفاق كافة والذي أكد على ضمان سيادة لبنان الكاملة وإستقلاله وسلامة أراضيه والوحدة الوطنية فيه. كما أنّ هذا الإتفاق حظي بموافقة ودعم الاتحاد الأوروبي والذي كرّر تأكيده على تشبثه بإتفاق الطائف «وعدم وجود بديل وذلك في الظروف الحالية للعملية التي يرتئيها الاتفاق من أجل تحقيق الوفاق الوطني والسلام». المفارقة أنّ كل الأمم أجمعت على أنّ هذا الإتفاق هو المدخل الرئيسي لإتمام عملية السلام إلّا ساسة لبنان.
للأمانة كنتُ وفريق من الرفاق المناضلين المُتابعين عن كثب لظروف ولادة إتفاق الطائف وكُنا نقوم بزيارات متتالية للصرح البطريركي الماروني حيث كُنا نتشارك وصاحب الغبطة وسيادة المثلث الرحمات المطران رولان أبو جودة ما يتم تناقله من أخبار عن هذا الإتفاق وبنوده والظروف التي نشأ فيها وآلية تطبيقه، وغالباً ما كُنّا نُلاحظ أنّ لدى البطريرك وسيادة المطران مخاوف كبيرة من نتيجة عدم تطبيقه وفقاً للأصول والتي كانت تحصل من قبل سلطات الأمر الواقع والهدف كان إفشال هذا الاتفاق… وغالباً ما كان الصرح يتعرّض للضغوط الداخلية – المحلية والإقليمية والدولية وكانت الضغوط تتمحور بين الرفض والقبول، والبطريرك كانتْ أهدافه تفادي الإنقسام العامودي فيما بين المكوّنات اللبنانية – اللبنانية والمكوّنات المسيحية – المسيحية وتحديداً المارونية – المارونية والتي تتزامن مع معارك دموية وتدمير وخراب… وفي أحد اللقاءات وربما كان يوم 22 تشرين الأول حين تسلّم البطريرك وثيقة اللجنة الثلاثية معدّلة بحسب الإصلاحات التي أدخلتها عليها سوريا بناء على طلب السعوديين الذين كانوا قد تسلّموها من النواب المسيحيين بمطالبهم… وكان الوسيط في حينه النائب المرحوم جورج سعادة الذي طالب غبطة البطريرك بتسليمها إلى أعضاء الجبهة اللبنانية في حينه… لكن البطريرك صفير المشهور بحذره رفض إعطاء أي تصريح بهذا الخصوص وإكتفى بالقول «على النوّاب تحمُّل مسؤولياتهم».
للذين يُحوّرون الوقائع إنّ الفاتيكان كان داعماً للعماد عون وكان ضد سياسة بكركي، الصح تدخّل في حينه لإقناع العماد عون بالسير بالحل عكس ما تسوقه بعض الأقلام التي تسعى جاهدة إلى التضليل الممنهج، إضافة لذلك ورغم معرفة البطريرك المسبقة وبالجو المتوتر بينه وبين العماد عون لم يتوانَ البطريرك بالتوجه إلى بعبدا في محاولة لرأب الإنقسام اللبناني وخصوصاً المسيحي، لكن عون بقيَّ مُصرّاً على الرفض المطلق وفي حينه رشحت معلومات عن أنّ العماد عون يوفد مسؤولاً لبنانياً رفيع المستوى إلى دمشق لمحاورة الأسد وفق أجندة كانتْ تعدّل ذهاباً وإياباً… ولن نخفي سِراً وإستناداً لوثائق نحتفظ بها مفادها أنّ بعض أركان الجبهة اللبنانية كانوا قد وافقوا على المساعي التي يقوم بها الفاتيكان وغيره من الدبلوماسيين والتي كانتْ تتعنون تحت «إنهاء الحرب» حيث استند هؤلاء إلى صعوبة المرحلة وخطورة التصعيد وتعنُّتْ العماد عون في حينه…
لكل من يُحاول ضرب مصداقية الصرح البطريركي ماضياً وحاضراً إليكم أيُّها الرأي العام ما قاله البطريرك صفير في حينه «لا يُمكننا ولا نريد أن نُدافع عن الوثيقة، لكننا إستناداً إلى ما قاله النواب الذي زارونا في روما، نقول إنّ الوثيقة قالت بلبنان وطناً نهائياً…» وأزيد أنه في آخر زيارة للسفير البابوي في حينه «بابل بوانتي» للعماد عون حيث أبلغه رفض الفاتيكان «مسألة حل مجلس النوّاب» كما أعلم السفير بكركي بالزيارة وظروفها وما تلقّاه من جواب. أضف إلى ذلك ما تضمنته الوثيقة التالية «بعد زيارة السفير بابل بوانتي قصر بعبدا ولقائه العماد عون سُئل عن رأيه في الوثيقة العربية فأجاب: أعتقد أنّ هذا الموضوع لبناني وعلى اللبنانيين إعطاء الجواب ومن الطبيعي أننا درسنا في التفصيل هذه الملف من ناحيتي الشخصية أو في الفاتيكان ونعتبر أنها بداية مسيرة الحل التي نراها مهمة وضرورية وكما تعرفون أن لنا ملء الثقة بالمبادرة العربية ونأمل أن تبدأ هذه المسيرة في صورة حقيقية وجدّية…».
إنّ الطائف أتى على دم اللبنانيين عامةً ونتيجة لسوء إدارة سياسية وأنانية القادة، ومن تولّوا العمل السياسي منذ الحرب ولغاية اليوم يفتقرون إلى العمل السياسي المنتج، وأثبتوا أنهم قادة غير جديرين بتحمّل المسؤولية وإنهم فشلوا ويضعون الملامة على الآخرين… هم قادة هدفهم الكرسي والتنعُّم بخيراتها… ضلّلوا الرأي العام وكابروا وكانوا السبب في تقليص صلاحيات رئاسة الجمهورية ويدّعون اليوم أنهم منقذي لبنان وحماة المسيحيين، ويفبركون الأكاذيب بحق بكركي التي أعطيَ لها مجـــد لبنان. فصول التعطيل والتهميش والمساومة وتجيير السيادة والبيع والشراء كانتْ من صنع أيديهم وما زال التاريخ يُعيد نفسه، فإلى متى السكوت؟!