بات لبنان، البلد الذي طالما تميز بوفرة المياه فيه، مهدداً بالشح المائي، ليس فقط بسبب التغير المناخي، الذي حذرت الأمم المتحدة من تداعياته خصوصاً في الشرق الأوسط، حتى أنها اختارت عنوان “المياه من أجل السلام” كموضوع ليوم المياه العالمي لهذا العام، لكن هناك عوامل أخرى تجعل الوضع أكثر خطورة في لبنان، أبرزها سوء الإدارة.
يتميز لبنان بتعدد مستويات هطول الأمطار والثلوج فيه، وتختلف كل منطقة فيه عن الأخرى، وفق ما يوضح الباحث في البيئة المائية كمال سليم، ففيما ترتفع معدلات هطولات الأمطار في الساحل، تنخفض إلى حد كبير في البقاع مثلاً، كما يظهر الواقع عبر التاريخ، وتحديداً منذ أيام الانتداب الفرنسي في عشرينيات القرن الماضي.
يضيف سليم، “في منطقة القاع البقاعية مثلاً، تسجل أدنى مستويات هطولات أمطار في البلاد، في مقابل معدلات مرتفعة في الجبال، بالتالي ما من معدلات هطولات ثابتة في المناطق اللبنانية بل هناك تفاوت كبير فيها، لكنها لم تشهد تراجعاً في السنوات الـ50 الأخيرة، بل على العكس ترتفع إلى حد كبير معدلات المتساقطات في لبنان، إلا أنه برزت مشكلة حقيقية تعكس تأثيراً واضحاً للتغير المناخي، مع انخفاض مستويات تساقط الثلوج في المرتفعات وارتفاع درجات الحرارة في الشتاء، ما يؤدي إلى ذوبانها سريعاً، فلا تكون لها أي فائدة للمخازن الجوفية”.
ويوضح الباحث في البيئة المائية أن “الثلوج لم تعد تتساقط دون ارتفاع الـ1000 متر بعكس ما كان يحصل في السابق. كما أن درجات الحرارة لا تنخفض إلى حد كبير لتثبيت الثلوج لوقت أطول، وهذا ما يعتبر أساسياً أيضاً للمخازن الجوفية ولتخزين المياه الناتجة من ذوبان الثلوج. فعندما تذوب سريعاً، تذهب كسيول في البحر من دون الاستفادة منها ولا من الأمطار. لذلك، يضطر المواطن إلى شراء المياه في الصيف كما في الشتاء، وتجد شركات المياه نفسها عاجزة عن تلبية حاجات المواطنين مع ارتفاع الطلب وتراجع المخزون من مصادره”.
مزيد من التحديات
يشكل هذا تحدياً كبيراً للبنان لأن الشح في المياه سيتصاعد في السنوات المقبلة كما يحذر المتخصصون، على أثر تداعيات التغير المناخي. انطلاقاً من ذلك، يشدد سليم على ضرورة الحرص على المياه الجوفية وتجنب استنزافها بطرق عشوائية لعدم القدرة على زيادة معدلاتها، موضحاً، “على سبيل المثال، في البقاع، يزيد استهلاك المياه الجوفية أكثر بعد أن يؤدي إلى مزيد من الشح والتحديات أمام المواطنين، هذا ما يدعو إلى إيجاد حلول تسمح بمواجهة التحديات المتزايدة عبر إنشاء السدود ربما، وإن كنت لا أراها من الحلول الحتمية، خصوصاً أنه حصلت فوضى في إنشائها وكانت هناك علامات استفهام حول عديد منها. في المقابل، تبدو البحيرات الجبلية من الحلول المتاحة لأنها تسمح بالحد من استخدامات المياه الجوفية للري، ما يسمح بالحفاظ على المياه السطحية، بما أن الأراضي الزراعية تستنزف المياه الجوفية. كما أن السياحة والصناعة والاستعمال المنزلي للمياه مجالات تستنزف المياه الجوفية ولا بد من السعي إلى إيجاد حلول لها”.
يتأثر لبنان بالتغيير المناخي كما تتأثر مختلف الدول بطبيعة الحال. فثمة شح مقلق في الدول الأوروبية مثل فرنسا وإسبانيا وحتى المغرب على رغم وجود سدود بالمئات، لكن في لبنان تزيد التحديات مع تزايد النمو السكاني واستخدام المياه بمعدلات كبرى، خصوصاً بوجود النازحين بمعدل لا يقل عن مليوني شخص إضافي في السنوات الأخيرة، حتى إن لبنان عرف بـ”قصر المياه” من أيام الفرنسيين وكان يعتبر البلد الأغنى بالماء بين الدول العربية، لكن مع بلوغ عدد سكانه سبعة ملايين وبفعل التغير المناخي، زادت أخطار شح المياه فيه.
وفي ظل غياب الخطط بعيدة المدى، بات الملجأ الوحيد هو الآبار التي تُستنزف. وهناك مشكلة تلوث المياه وعدم القدرة على توفير مياه صالحة للاستخدام مع ارتفاع معدلات التلوث في مناطق عدة كالليطاني الذي يعتبر أساس رفاهية لبنان في المياه، لكنه بات أخيراً قنبلة موقوتة مع ارتفاع معدلات السموم فيه. كذلك هناك بحيرة القرعون، وهي غير صالحة للاستخدام إلا للكهرباء، ما يشير إلى الحاجة الملحة للمشاريع بعيدة المدى لمواجهة هذا التحدي، بحسب سليم، الذي ينوه بأن الدولة وضعت مشاريع كثيرة منذ 20 عاماً ولم يتحقق منها شيء.
سوء الإدارة أساس المشكلة
لا تعتبر مستشارة وزير الطاقة والمياه سوزي حويك أن المشكلة في لبنان في التغير المناخي وحده، حيث لكل بلد مصادره المائية الخاصة وطريقة التعاطي مع قطاع الماء الذي يعتبر حيوياً. على سبيل المثال، تعتبر الأردن بلاد فقيرة بالمياه وتواجه أزمة كبرى وكل قطرة ماء لديها غالية الثمن ومكلفة. على رغم ذلك، باتت في مراحل متطورة في إعادة استخدام الصرف الصحي، بما أنه لا يتوافر لديها المطر للاستفادة منه. ويستفيد الأردنيون من المياه الجوفية ويعملون على تحلية مياه البحر التي تعتبر عملية مكلفة للغاية، ومن ثم فهي ليست متاحة في لبنان كما توضح حويك.
تبدو المسألة أكثر تعقيداً في لبنان خصوصاً أن قطاع المياه الذي يعتبر حيوياً، بات ثانوياً في ظل الحكومات السابقة، ولم يكن هناك تركيز فعلي عليه، تقول حويك، “أسهم سوء الإدارة بشكل أساسي في تفاقم الوضع. لذلك، بدأنا اليوم بالعمل على هيكلية ومشاريع هدفها خدمة المواطن من خلال استراتيجيات تنقل القطاع من مكان إلى آخر. قد تكون السدود من الاختيارات المتاحة، بما أن لبنان لن يكون قادراً على الاستمرار بالاستفادة كالسابق من المياه الجوفية. ففي ظل هذه الظروف، سيتم العمل على تقديم خدمة أفضل، وتحسين البنى التحتية، وإنشاء سدود من تلك التي ثمة حاجة ماسة إليها، كما في بيروت”.
وتضيف، “من الممكن الاستفادة من الينابيع في مناطق معينة. أيضاً، لا بد من الحد من التعديات على الشبكة ووقف الهدر والسرقات لتكون الخطط فاعلة، وذلك بعد رفع التعرفة وتحسين البنى التحتية لتوفير مصادر طاقة من المياه النظيفة للمواطن. فنسبة 50 في المئة من المياه الموزعة لا مردود مادياً لها، هذا إضافة إلى ضرورة إعادة النظر في التعرفة لكل من قطاعي الصناعة والسياحة لاعتبارهما من القطاعات التي تستهلك المياه بمعدلات عالية”.
المياه موجودة، لكنها لا تصل إلى المواطن، كما تشير حويك إلى أن “الخطة التي وضعها الوزير السابق للطاقة والمياه جبران باسيل كانت جيدة بشكل عام، ويمكن الاستفادة منها وإعادة النظر في نواح معينة منها بشكل يواكب تداعيات الأزمة الاقتصادية وتراجع الإمكانات المادية في البلاد. فالأزمة غيرت وجهات النظر وطريقة العمل، ولا بد من القيام بعدد من الإصلاحات للاستمرار”.
في الوقت نفسه، لا تنكر حويك أن أثر التغير المناخي بدأ يظهر بوضوح منذ نحو أربع سنوات، كما بدا واضحاً في طوفان الطرقات، لا عندما تمطر للمرة الأولى في السنة، كما جرت العادة، بل في كل مرة تمطر، هذا ما يؤكد ارتفاع كميات الهطولات في فترات قصيرة بشكل يستحيل على الشبكات استيعابها، ما يستدعي مواكبة هذا التغيير وتطوير البنى التحتية.