المعاناة من الحرمان والنوم بأمعاء خاوية يطال آلاف الأطفال اللبنانيين واللاجئين، فهؤلاء يفتقرون بحسب أبيض وبيغبيدير، إلى أنظمة غذائية صحية وبدرجة كافية، خاصة أولئك الأصغر سناً، والفتيات، والذين ينتمون الى الفئات المهمشة والأكثر فقراً.
في تصريحهما أشار المسؤولان إلى نتائج مسح أجري عن “التغذية في لبنان” بين عامي 2021- 2022، أظهر أن “3 من كل 4 أطفال، دون سنّ الخامسة، يعانون من الفقر الغذائي، مما يعني أن وجباتهم الغذائية غير صحية، إذ تضمنت نصف المجموعات الغذائية الموصى بها”.
الأمر المثير للقلق أن واحداً من كل أربعة أطفال في لبنان، دون سنّ الخامسة، يعيشون حالياً حالة فقر غذائي مدقع، كما ورد في تقرير اليونيسف الصادر بداية الشهر الجاري، مما يعني أن “85 ألف طفل، لبناني وغير لبناني، يتناولون وجبات غذائية تفتقر للحد الأدنى من التنوع الغذائي، فهي بالكاد تشتمل على مجموعتين غذائيتين، مما يجعل الأطفال عرضة بشكل كبير للتقزم والهزال الشديد اللذين يشكلان خطراً على حياتهم”.
أغرقت الأزمة الاقتصادية سكان لبنان في براثن الفقر، مما أجبر عدداً كبيراً من العائلات على إلغاء أنواع عدة من المواد الغذائية من لائحة وجباتها اليومية، لاسيما الأسماك واللحوم والدجاج والألبان والأجبان، بل أن بعضها يتمكن بالكاد من توفير وجبة غذاء واحدة في اليوم، أما حليب الأطفال فأصبح ثمنه خارج قدرة غالبية الأهل، بعد رفع الدعم عنه.
الثلاجات خارج الحاجة
قبل أسبوعين فصلت سناء (اسم مستعار) الكهرباء عن ثلاجة منزلها، كونها لا تملك المال لشراء أي نوع من الأطعمة، فحتى الخضراوات والبطاطا أصبحت خارج قدرتها المادية، وتشرح لموقع “الحرة” “معظم أيام الشهر اقصر الوجبات على البرغل والأرز، وفي أيام كثيرة لا أملك المال لشرائهما، ولكي أسدّ جوع أولادي اضطر للاستدانة من دكان الحي، إذ أشعر أن سكيناً يغرز في قلبي حين تبكي ابنتي البالغة من العمر ثلاث سنوات أو شقيقها الذي يكبرها بأربعة أعوام من الجوع، أما ولديّ وعمرهما 13 و15 عاما فيتفهمان الوضع أكثر”.
يعمل زوج ابنة طرابلس في شمال لبنان، صياداً، ما يجنيه بالكاد كما تقول يكفي لدفع بدل إيجار المنزل والفواتير الشهرية، بالتالي “أصبحت الحاجات الأساسية حلماً بالنسبة لنا، من عبوة الحليب إلى الفاكهة واللحوم والأجبان، فكيف بالكماليات من سكاكر وحلويات وملابس وألعاب، وإلى حد الآن لم استفد من تقديمات وزارة الشؤون الاجتماعية أو أي من الجمعيات”.
التغذية السليمة بالغة الأهمية، خصوصاً في مرحلة الطفولة المبكرة، كما يشدد أبيض وبيغبيدير، ويشرحان “ما يتناوله الأطفال من غذاء يحدد إمكانية بقائهم أحياء، ويُشكّل نموّهم وقدرتهم على التعلّم والتطور لبقية حياتهم. ومما لا شك فيه أن الأطفال الذين تتوافر لهم التغذية الجيدة أكثر مرونة وقدرة على النمو والتعلّم واللعب والمشاركة بفعالية في مجتمعاتهم”.
ولتغذية أدمغتهم وضمان نموهم بشكلٍ صحيح، يحتاج الأطفال إلى تناول كميات كافية ومتنوعة من الغذاء، تتضمن المجموعات الغذائية الثمانية كما ذكر المسؤولان “حليب الأم والخضار والفاكهة والحبوب والبيض واللحوم والبقول ومنتجات الألبان، وذلك بحسب مقياس درجة التنوع الغذائي للأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة، الذي تعتمده منظمتا اليونيسف والصحة العالمية”، ولتلبية الحدّ الأدنى من التنوع الغذائي، يحتاج هؤلاء إلى “تناول وجبات تحتوي على خمس مجموعات من الأطعمة على الأقل، من أصل المجموعات الغذائية الثماني الموصى بها”.
وسبق أن أشار بيغبيدير إلى أهمية التغذية المبكرة، بدءاً من مرحلة ما قبل الحمل، لنمو الأطفال وتطورهم وتعليمهم، مؤكداً أن ضمان النظم الغذائية الصحية، والقضاء على سوء التغذية لدى الفئات الأكثر ضعفاً في لبنان، أصبحا تحدياً كبيراً، وسط الأزمات التي تمر بها البلاد.
حين يصبح الموت.. أمنية
وعدت “أم حسن” طفلها البالغ سبع سنوات بإعداد وجبة طعام له ولشقيقته ذات الـ 13 سنة، بعدما عرفت أنها ستحصل على صندوق مساعدة من إحدى الجمعيات، أمسكت يد صغيرها وتوجهت وإياه لجلبه للبدء بتحضير الغداء، لكنها صدمت عندما لم تفتح لها الموظفة الباب مكتفية بالحديث معها من خلفه، طالبة منها أن تعود أدراجها وانتظار اتصال منها، وتقول “في تلك اللحظات تمنيت لو أني أفارق الحياة كما في كل مرّة أرى فيها دموع طفليّ نتيجة حرمانهما من كل شيء”.
لم تتوقف “أم حسن” عن البكاء طوال طريق عودتها من الجمعية، بخطى ثقيلة كانت تسير إلى الغرفة التي تسكن فيها مع ابنتها وزوجها وشقيقته ووالده في حي التنك في طرابلس، وما إن وصلت حتى فجّرت غضبها طالبة من زوجها أن يبحث عن عمل كون الوضع لم يعد يحتمل، وتقول “في اليوم الذي يعمل فيه كعتّال لا يجني سوى مئة ألف ليرة أي حوالي دولار واحد، فكيف لهذا المبلغ أن يكفي ستة أفراد”.
أبسط حقوق الإنسان، كما تشدد “أم حسن” لموقع “الحرة، أن “يحصل على طعام وأن يتمكّن من تأمين الحليب لأطفاله”، والعناصر الأربعة الأساسية لهذا الحق، كما أوردت المفوضية السامية لحقوق الإنسان والحق في الغذاء، هي “التوافر وإمكانية الوصول إليه بأسعار مقبولة، والكفاية أي يجب أن يشبع الاحتياجات الغذائية، وأن يكون الغذاء آمنًا لاستهلاك الإنسان وخالياً من المواد الضارة، وأن يبقى متوفّراً لأجيال اليوم والغدّ على حد سواء”.
وصلت حدة الأزمة في لبنان إلى درجة أنه أصبح من بؤر الجوع الساخنة، كما أوردت منظمة الأغذية والزراعة وبرنامج الأغذية العالمي الذي سبق أن أشار إلى أن أكثر من نصف السكان اللبنانيين يحتاجون إلى المساعدات لتغطية احتياجاتهم من الغذاء والاحتياجات الأساسية الأخرى، وأن الأسر اللبنانية تجد صعوبة متزايدة في تحمل تكاليف توفير الأطعمة المغذية وتضطر إلى اللجوء إلى استراتيجيات ضارة للتكيف مع الوضع، إذ تغيرت الأنظمة الغذائية بشكل ملحوظ.
ولمساعدة فقراء لبنان على تخطي هذه المرحلة، تدعم المنظمات الدولية برامج عدة، منها المشروع الطارئ لدعم شبكة الأمان الاجتماعي، الذي وافق البنك الدولي عليه في يناير 2021، وهو مشروع مدته 3 سنوات وكلفته 246 مليون دولار، يهدف إلى تقديم تحويلات نقدية وتوفير الخدمات الاجتماعية للبنانيين الفقراء والمهمشين.
وبعد أن استفاد هذا المشروع من تمويل إضافي أول بقيمة 4 ملايين دولار في مايو 2022، وافق مجلس المدراء التنفيذيين لمجموعة البنك الدولي الشهر الماضي، على تمويل إضافي ثان له، بقيمة 300 مليون دولار، مما سيسمح بتحويلات نقدية إلى 160 ألف أسرة لمدة 24 شهراً.
جوعٌ.. مؤلم ومُحرِج
أرخت الأزمة التي يمر بها لبنان بظلالها الثقيلة على اللاجئين السوريين، فارضة على 90 في المئة منهم العيش في حالة من الفقر المدقع، بحسب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، من بينهم جميلة الوالدة لطفلين (ثلاث وخمس سنوات)، التي حرم صغيرها من الحليب منذ طفولته، إذ عجزت عن إرضاعه طبيعياً، كونه كما تقول “بعد ثلاثة أشهر من ولادته تفاجأت بجفاف الحليب من ثدييّ نتيجة عدم تناولي الأطعمة المغذية والمتنوعة، بعد ذلك بالكاد تمكّنت من شراء بضع عبوات حليب له حتى أكمل العام من عمره”.
مرّ شهران من دون أن يذق طفلا جميلة طعم اللحوم والألبان والأجبان وكل الأطعمة المغذية، فدخل والدهما من عمله كناطور مبنى لا يكفي سوى لشراء قارورة غاز وبعض البقوليات، وإن كان صغيراها يشتهيان ويطلبان كل ما تراه عيناهما، وتقول لموقع “الحرة” “كلما شاهدا فاكهة وخضار وسكاكر وعصائر وحتى ألعاب، يبكيان لكي أشتري لهما، لذلك أفّضل البقاء في المنزل على أن أتعرض وإياهما لمواقف محرجة”.
نتيجة سوء تغذيته، ينمو طفل جميلة بشكل بطيء، إذ يبدو وكأنه أصغر من عمره الحقيقي. وكانت دراسة أجراها المجلس الوطني للبحوث العلمية في مارس الماضي، توصلت إلى ارتفاع معدل التقزم والبدانة وزيادة الوزن لدى أطفال لبنان ما دون سن الخامسة نتيجة سوء التغذية. ويعتبر الهزال الشديد الشكل الأشد فتكاً من أشكال نقص التغذية ويمثّل أحد أكبر التهديدات لبقاء الأطفال بحسب اليونيسف، و”تُعزى حوالي وفاة واحدة من كل 5 وفيات بين الأطفال دون سن الخامسة في العالم إليه”.
السبب الرئيسي لنقص التغذية لدى الأطفال في لبنان، كما ذكر أبيض وبيغبيدير، هو الفقر، إضافة الى الهشاشة الاقتصادية، ونقص المعرفة والوعي بشأن ممارسات التغذية الصحيّة والسليمة، وما يزيد الأمر سوءاً بحسب ما يشيران هو نظام الحماية الاجتماعية في لبنان الذي يجب أن يكون أكثر استجابة لاحتياجات الأطفال، لا سيما فيما يتعلق بالتغذية.
محاور المواجهة
احتل لبنان المرتبة الأولى ضمن الترتيب العالمي لناحية تضخم أسعار الغذاء بارتفاع نسبته 261 في المئة، بين نهاية فبراير 2022 ونهاية فبراير 2023، والشهر الماضي أشار موقع “World of Statistics” إلى تسجيل هذا البلد أعلى نسبة تضخّم في أسعار الغذاء عالمياً، وهي 352 في المئة.
“يبدو جلياً أن هناك حاجة ماسة وملحّة إلى اتخاذ إجراءات جريئة ومنسّقة لإنهاء الفقر الغذائي الفادح في لبنان، مع التركيز على تحسين النظم الغذائية، وممارسات التغذية، والخدمات المقدمة لجميع الأطفال والنساء، وتوسيع شبكة الحماية الاجتماعية واستدامتها”، بحسب تصريح أبيض وبيغبيدير وبما أن الأُسر في لبنان، غير قادرة، وحدها، على تأمين الأطعمة المغذية لأطفالها، من أجل نموهم وإبعاد شبح الموت، فهي بحاجة إلى خدمات يَسهُل الوصول إليها، والى أطعمة مغذية وغير مكلفة، الى جانب التأكد من حصول أطفالها على الرعاية والاستجابة اللازمة”.
ولمعالجة الأعباء العديدة المترتّبة على سوء التغذية في لبنان، وضعت وزارة الصحة العامة، بالشراكة مع اليونيسف وقطاع التغذية في لبنان، استراتيجية واضحة ترتكز على خمسة محاور، وهي بحسب ما ورد في التصريح “أولاً، تعزيز حوكمة التغذية متعددة القطاعات، ثانياً، استخدام النظم الصحية التي توفر تغطية شاملة لخدمات التغذية الأساسية، ثالثًا، وضع أنظمة غذائية مرنة ومستدامة، تُحفز إنتاج وتوزيع وبيع الأطعمة المغذية للأطفال”.
أما المحور الرابع فيتعلق بالتوعية على أهمية إنشاء بيئة آمنة وداعمة للتغذية الصحّية للأطفال من الأعمار كافة، في حين ينص المحور الخامس على جعل أنظمة الحماية الاجتماعية أكثر مراعاة لمكامن الضعف الغذائي.
“الاستثمار الذكي”
التعاون بين اليونيسيف ووزارة الصحة يعود إلى سنوات طويلة، كما أكدت كدت مديرة الوقاية الصحية في وزارة الصحة العامة المهندسة جويس حداد، لافتة إلى أنه “العام الماضي وضع الطرفان استراتيجية عمل لثلاث سنوات مقبلة، تضم أربع نقاط أساسية، أحدها تتعلق بالتغذية المتكاملة وتنمية الطفل، وذلك لمواجهة تداعيات الأزمة التي يمر بها لبنان على الفئات الأكثر ضعفا في المجتمع، لاسيما تعرض الأطفال لخطر الإصابة بسوء التغذية بكل أشكالها”.
وفي إطار التعاون المشترك بين الطرفين، بدأت وزارة الصحة، بحسب ما تقوله حداد لموقع “الحرة”، في “تنفيذ برنامج وطني لتعزيز نتائج التغذية وتنمية الطفل، مع التركيز المتعمد على تعزيز خدمات التغذية الكافية، والوجبات الغذائية الكافية وممارسات الرعاية السريعة الاستجابة طوال دورة الحياة، لهذا يتم استخدام منصات متعددة، بما في ذلك مراكز الرعاية الصحية الأولية”.
وتضيف “يتم ذلك من خلال زيادة وعي مقدمي الرعاية بشأن التغذية الصحية وتنمية الطفل، والفحص والكشف عن الأطفال والنساء الذين يعانون من سوء التغذية والحرمان النمائي، وتوفير حزمة من الخدمات، بما في ذلك خدمات المشورة بشأن تغذية الأم والرضاعة الطبيعية الحصرية والتغذية التكميلية المثلى وكذلك الوقاية من فقر الدم ونقص فيتامين أ والسيطرة عليهما”.
عندما تفشل الوقاية، يصبح علاج سوء التغذية ضرورة أساسية، كما تقول حداد “لذلك تمّ تجهيز 25 مركزاً لعلاج سوء التغذية ضمن شبكة مراكز الرعاية الصحية الأولية لتوفير العلاج لكافة أنواع سوء التغذية بين الأطفال والنساء الحوامل والمرضعات”، مشيرة إلى البرنامج الوطني لتغذية الرضع وصغار الأطفال: “نهدف واليونيسيف لضمان حصول كل امرأة حامل أو مرضعة وكل طفل على التغذية السليمة والرعاية التي يحتاجون إليها منذ الولادة.
وقد أشارت اليونيسيف سابقاً إلى أنه في عام 2022 تم الوصول إلى أكثر من 275000 طفل بخدمات التغذية الأساسية من خلال (الكشف عن سوء التغذية، وتقديم المشورة حول تغذية الأطفال الرضع وصغار السن، تزويد المتممات الغذائية، وإدارة سوء التغذية الحاد).
كما تعاونت وزارة الصحة، بحسب حداد، مع “50 قابلة اجتماعية لتقريب الرعاية الصحية للأم والمولود حديثاً، إذ قمنا بوضع معايير جودة صحية لعيادات القابلات القانونيات المستقلات وذلك لضمان تحسين مؤشرات صحة الأم وطفلها وبالتالي خفض معدل الوفيات” شارحة “للقابلات دور مهم في ضمان حصول النساء على رعاية صحية جيدة أثناء الحمل، من خلال تقديم الاستشارة الصحية والغذائية لهن وتثقيفهن بشأن صحتهن الإنجابية وصحة أطفالهن المولودين حديثاً”.
ونتيجة الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان تخلف عدد كبير من النساء الحوامل عن القيام بالفحوصات الدورية خلال فترة الحمل، وذلك لعدم قدرتهن على تحمّل كلفة المواصلات بالإضافة الى كلفة المعاينة الطبية والفاتورة الاستشفائية.
ولأن الهدف الأساسي حماية صحة الأطفال، تستمر “اليونيسيف” كما تقول حداد بتأمين اللقاحات الروتينية الأساسية لهم، ولضمان سلامة هذه اللقاحات، كونها تحتاج للحفظ في درجات حرارة محددة، جهّزت المنظمة الدولية مراكز الرعاية الصحية الأولية بالطاقة الشمسية بما يضمن كذلك مواصلة الأخيرة لتقديم خدماتها في مختلف المناطق اللبنانية”.
نجاح تنفيذ الاستراتيجية المشتركة بين وزارة الصحة واليونيسيف يتطلّب بحسب أبيض وبيغبيدير، التزاماً قوياً واستثماراً من جميع أصحاب الشأن في القطاعات المختلفة، ويشددان على أن “الاستثمار في تصحيح سوء التغذية لدى الأطفال، يعتبر وسيلة فعالة للوقاية من نتائج الفقر، ويؤمن لهم فرص عيش حياة أكثر صحة وإنتاجية. فكل دولار يستثمر في الوقاية من سوء التغذية، يُغني عن إنفاق ما لا يقل عن ثماني دولارات على العلاج فيما بعد. باختصار، هو استثمار ذكي في التنمية الاجتماعية والاقتصادية في لبنان”.