على ضوء الخطة التي اتفق عليها، عمد القبطان إلى تغيير لون الباخرة وإسمها وجنسيتها في مدة لا تتجاوز الأسبوع، كان خلالها المتربصون شراً بالباخرة ما زالوا يرصدون الآفاق منتظرين اقترابها من الشاطئ اللبناني، وكانت برقياتهم يلتقطها جهاز التنصت في الشعبة الثانية، ولكن بعد مرور وقت على انتظارهم وصول الباخرة الموعودة دون ظهور أي أثر لها، يبدو أن الفلسطينيين سئموا المراقبة، معتقدين أن كل القصة أكذوبة مركّبة المقصود منها الالهاء عن عملية أخرى في مكان آخر.
لم تكد تمر 24 ساعة على التقاط جهاز التنصت في الشعبة الثانية البرقية الفلسطينية بفك المراقبة، حتى تلقى النائب جبران طوق برقية من قبطان الباخرة يعلمه أنه أصبح مقابل شواطئ جبيل وهو يقترب من الساحل، لكنه سيبقى على مسافة من الشاطئ لأن حجم الباخرة يمنعه من الاقتراب.
على الفور تم ابلاغ أعضاء اللجنة، ومع غروب الخميس 31 تشرين الأول 1975 شاهد بعض مقاتلي نمور الأحرار المتواجدون على سطح الرابية مارينا في الصفرا الباخرة تقترب من الشاطئ فتم اعلام الرئيس شمعون، وسرعان ما وصل الشيخ بشير الجميل وداني شمعون وأعضاء اللجنة مع عدد من المسؤولين العسكريين.
فيما الليل بدأ ينشر سواده، راحت الزوارق الصغيرة تنطلق من موانئ بلدات: طبرجا والصفرا والعقيبة والبوار والمعاملتين باتجاه الباخرة وعلى متنها عناصر من أحزاب الجبهة اللبنانية، وسرعان ما بدأ افراغ الباخرة ونقل الصناديق إلى الزوارق التي حملتها إلى الموانئ التي انطلقت منها، وبدأ تحميلها في الشاحنات التي انطلقت إلى الأديرة والمخازن.
صباح الجمعة 1 تشرين الثاني تسارعت وتيرة العمل، وتم استقدام عشرات الشبان والمقاتلين، وراحت الشاحنات المحمّلة بالأسلحة والذخائر تغادر الموانئ إلى القرى والبلدات والمراكز العسكرية.
يتذكر أحد المسؤولين العسكريين السابقين أن أولى الشاحنات التي انطلقت يومها كانت وجهتها دير الأحمر، خاصة وكان هناك تخوف من أن تقطع طريق الأرز – عيناتا بسبب تراكم الثلوج، فكان إصرار من القيادات البشراوية لتأمين السلاح والذخائر لدير الأحمر في أسرع وقت.
تبعتها شاحنة أخرى ووجهتها جزين، وخوفاً من وقوعها في أيدي القوات الفلسطينية في محيط مدينة صيدا سلكت الشاحنة طريق ترشيش – زحلة – صغبين، ومن البقاع الغربي دخلت إلى جزين. وكانت معظم الشاحنات، خاصة المتوجهة إلى القرى الواقعة في الأطراف تنطلق بحماية غير منظورة من قبل دوريات لشباب أحزاب الجبهة اللبنانية كانت تستكشف وتؤمن لها الطريق.
لدى المسؤولين العسكريين الذين كانوا يومها متواجدين عند مرفأ الأكوامارينا والموانئ المجاورة كمّ هائل من الأخبار والروايات حول ظروف تحميل الشاحنات وتوجيهها إلى القرى والأديرة.
يتذكر مسؤول عسكري سابق أنه لم يكن هناك مشكلة في توجيه الشاحنات إلى الأديرة الواقعة في الأقضية المسيحية، لكن المشكلة كانت عند إرسال الشاحنات إلى الأطراف، خاصة في ظل الخطر الشديد من أن تقع في أيدي المنظمات الفلسطينية، وقد غامر العديد من السائقين بقيادة شاحناتهم وعبورهم المناطق التي يسيطر عليها الفلسطينيون خاصة طرابلس ومخيمات الشمال، واتبع السائقون يومها بمعاونة أدلاء محليين طرقاً جانبية يعرفونها جيداً تمر بمعظمها في قرى مسيحية.
مرت خمسة أيام وعملية التفريغ لا تتوقف ليلاً نهاراً، وكان يتم تبديل الشبان والمقاتلين دون أن يتوقف العمل لحظة واحدة، لكن مع الوقت ظهر أن عملية التفريغ بواسطة الزوارق واللانشات الصغيرة عملية بطيئة جداً وغاية في الصعوبة، فطوال خمسة أيام من العمل المضني لم يكن تم تفريغ ربع الحمولة، إضافة إلى أن العمل كان محفوفاً بالمخاطر ليس أقلها حال البحر الهائج، الذي قد يوقع الصناديق من على ظهر المراكب الصغيرة.
صباح 4 تشرين الثاني، تقرر أن يتم احضار باخرة أصغر تستطيع الدخول بسهولة إلى خليج مرفأ الأكوامارينا، بحيث يتم نقل الصناديق من الباخرة الرئيسية اليها ومن ثم تنقلها إلى الشاطئ، وتكفّل الشيخ بشير الجميل بتأمين الباخرة، وغروب ذلك النهار كانت الباخرة المطلوبة تقف بمحاذات باخرة الأسلحة والرافعات تنقل الصناديق إليها، ومع تباشير صباح 5 تشرين الثاني كانت الباخرة الصغيرة تتقدم إلى داخل مرفأ الأكوامارينا، وخوفاً من أية مضاعفات تقرر تسريع العمل قدر المستطاع فتم احضار مئات المقاتلين، كما أُحضر جميع الشباب الذين كانوا يتدربون في مخيم ريفون التابع للواء الجبل (بقيادة هنري صفير)، إضافة إلى عشرات الشبان الذين نزلوا من بشري، ووصل النائبين طوني فرنجية والأب سمعان الدويهي مع مجموعات من الشبان الزغرتاويين، وبدأ الجميع أوسع عملية تفريغ، وكانوا يسابقون الوقت والرافعات لا تتوقف ثانية عن العمل، فيما الشاحنات المحمّلة تنطلق بحماية المقاتلين ووجهتها الأديرة ومخازن الأسلحة خاصة في الجبال.
ليلاً تم افراغ الباخرة وعادت لتقف قرب باخرة الأسلحة لتنقل ما تبقى من صناديق أسلحة وذخائر واستمرت عملية نقل الصناديق حتى ساعات الفجر الأولى، عندما عادت الباخرة الصغيرة إلى داخل مرفأ الأكوامارينا لتبدأ عملية إفراغ الصناديق في الشاحنات.
لم تكد تمرّ ساعات قليلة من صباح 6 من تشرين الثاني، حتى قام رئيس الحكومة بفضح قصة الباخرة وقامت القيامة.
هنا دبّ الخوف في صفوف المسؤولين عن عملية التفريغ لأنهم كانوا ما زالوا بحاجة أقله لثلاثة أيام عمل متواصلة ليلاً نهاراً لاتمام عملية التفريغ، لكن الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل أرسلا أوامر واضحة باستمرار عمليات التفريغ مهما كانت النتائج.
في بيروت، وصف رئيس الحكومة رشيد كرامي الوضع بالخطير جداً، معتبراً أن قضية الباخرة الراسية قبالة شاطئ جونية خطيرة جداً، وأنه تبلغ منذ مساء البارحة بقصة الباخرة وقضي الليل ساهراً يحاول معالجة الوضع وقد أصدر أوامره بصفته وزيراً للدفاع لسلاح البحرية اللبنانية لاحتجاز الباخرة، لكن صباحاً اكتشف أن أوامره لم تنفذ، فلم تتحرك أي قطعة بحرية حربية من قاعدة جونيه البحرية والعمل ما يزال قائماً في مرفأ المعاملتين، وأضاف أنه متوجه إلى قصر بعبدا للاجتماع بالرئيس فرنجية.
الساعة التاسعة صباحاً، وصل الرئيس كرامي إلى قصر بعبدا، وإلتقى الرئيس فرنجية بحضور الوزير فيليب تقلا لأكثر من ساعة ونصف، خرج ليدلي بتصريح لم تبثه الاذاعة اللبنانية ولا تلفزيون لبنان، أبرز فيه بعض جوانب ما أسماه أزمة الباخرة، التي ما تزال تفرغ السلاح على مرأى ومسمع من الجيش الذي يعجز عن القيام بما يفرضه الواجب، متهماً الأميرال فارس لحود قائد سلاح البحرية في الجيش اللبناني بتغطية ما يجري في خليج جونيه القريب من مقر قيادته، وأشار إلى موقف قد يتخذه. وفسّر البعض هذا الموقف بانه اتجاه نحو الاستقالة. وغادر إلى السراي لحكومي.
لاقى موقف رئيس الحكومة، كل من الرئيس صائب سلام الذي أدلى بتصريح هاجم فيه تفريغ الأسلحة في جونيه، رافضاً القول أن هذا السلاح لحماية المسيحيين، وطالب بموقف واضح من الحكومة. فيما اتخذ الزعيم كمال جنبلاط موقفاً متشنجاً رافضاً عصيان أوامر رئيس الحكومة الذي هو في الوقت نفسه وزيراً للدفاع من قبل قائد الجيش العماد حنا سعيد الذي اتهمه بأنه يتلقى الأوامر من الرئيس كميل شمعون خلافاً للأصول، كما اتهم رئيس الجمهورية وفريقاً من الضباط المسيحيين بالتواطئ مع الميليشيات المسيحية لتسهيل إمرار الأسلحة إليها.
أما الرئيس كرامي، وفور وصوله إلى القصر الحكومي أجرى عدة اتصالات شملت مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد والامام موسى الصدر والرئيس صائب سلام والرئيس عبد الله اليافي والزعيم كمال جنبلاط، واتفق معهم على عقد قمة اسلامية في مقر المفتي في عرمون.
في القصر الجمهوري في بعبدا، وفور مغادرة الرئيس كرامي غاضباً وصل رئيس الشعبة الثانية في الجيش اللبناني العقيد جول البستاني يرافقه الأميرال فارس لحود وبعض الضباط والتقوا الرئيس فرنجية شارحين الوضع
يتذكر أحد المشاركين في الاجتماع أن أول سؤال سأله الرئيس فرنجية كان حول كمية السلاح الذي تم تفريغه حتى الساعة والوقت المتبقي لانهاء عمليات التفريغ، فردّ الأميرال لحود أن العمل ما يزال قائماً وحتى الساعة تم انزال نحو ثلثي الكمية وما زال العمال بحاجة أقله لثلاثة أيام عمل متواصلة لانهاء التفريغ.
ثم عرض رئيس الشعبة الثانية للوضع السياسي المستجد بعد تصاريح الرئيس كرامي والرئيس سلام والزعيم كمال جنبلاط مقترحاً مصادرة الباخرة من قبل الجيش اللبناني، ومن ثم تعمد الشعبة الثانية لتسليم ميليشيات الجبهة اللبنانية الأسلحة المصادرة بعد انحسار التشنج السياسي.
استمع الرئيس فرنجية لطرح العقيد جول البستاني دون أن يعلّق، ثم طلب من الضباط الاجتماع بالرئيس كميل شمعون في مكتبه المجاور، وبحسب العقيد جول البستاني فان رئيس الجمهورية أعطى موافقته على الاقتراح، فيما يشير أحد الضباط الذين شاركوا في الاجتماع أن رئيس الجمهورية لم يوافق تماماً وأن أوحى أنه لا يمانع بهذا الحلّ إن كان يجنّب البلاد مشكلة جديدة.
بعد خروجه من المكتب الرئاسي قصد العقيد جول البستاني ومن معه وزير الداخلية الرئيس كميل شمعون الذي كان اتخذ مكتباً له في القصر الجمهوري، قريباً من مكتب الرئيس بسبب تعذّر انتقاله إلى وزارته، وعرض عليه الاقتراح بحضور الشيخ بطرس الخوري وجورج أبو عضل.
لوهلة أبدى رئيس الجمهورية السابق تجاوباً بعدما أصغى إلى الحجج التي ساقها رئيس الاستخبارات اللبنانية، ولا سيما منها ضرورة عدم احراج رئيس الحكومة ودفعه إلى الاستقالة بعدما كان لوّح بها. وأكد العقيد بستاني للرئيس شمعون أن الشعبة الثانية ستعيد شحنة الأسلحة المصادرة إلى أصحابها ما دامت هي من تزودهم أسلحة في بعض الأحيان من مخازنها.
يتبع