مع ارتفاع درجات الحرارة حتى في عصر اتسم بتسجيل أرقام قياسية مثيرة للقلق على مستوى المناخ، شهد كوكب الأرض عدداً كبير من الظواهر المثيرة للقلق خلال السنة الحالية 2023.
لكن وسط المشاهد المروعة التي أحدثتها موجة من الأحوال الجوية القاسية في مختلف أنحاء أوروبا وآسيا وأميركا الشمالية، قد يكون الحدث المناخي العالمي الأكثر إثارة للقلق هو الذي يطغى على المنطقة المحيطة بالقارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا)، إذ وصل تكوين الجليد البحري إلى أدنى مستوى تاريخي له وبهامش كبير مثير للدهشة.
ويعيش الآن نصف الكرة الجنوبي شتاء شديد القساوة، وتغرق معظم أنحاء “أنتاركتيكا” في الظلام لأشهر عدة، وعادة ما يتوسع الجليد البحري خلالها ليمتد على مساحات شاسعة متاخمة لساحل القارة فوق المحيط المفتوح.
لكن هذا العام سجل انخفاضاً كبيراً ومفاجئاً في تمدد الجليد البحري، بحيث فقدت القارة في الوقت الراهن مساحة جليدية تفوق في حجمها مساحة غرينلاند.
عالمة المناخ القطبي في مركز “المسح البريطاني للقطب الجنوبي” British Antarctic Survey (معهد وطني للبحوث القطبية في المملكة المتحدة ويعنى بالعلوم القطبية وله حضور نشط في ’أنتاركتيكا‘) كارولين هولمز تصف الوضع بأنه “أكثر من مجرد تحطيم أرقام قياسية، إنه حدث يتجاوز السجلات والتوقعات وهو مشابه للاعب بيسبول يضرب الكرة بعيداً خارج الملعب، فالوضع مختلف حقاً الآن”.
وفي الوقت الذي يعد تقلص الكتلة الجليدية البحرية في النصف الشمالي من الكوكب مؤشراً مقلقاً لجهة التأثيرات الذي أحدثها البشر في مناخ الأرض لعقود من الزمن (أدنى مستوى للجليد تم قياسه في القطب الشمالي كان عام 2012)، فإن مسألة من نوع مختلف تكشفت في “أنتاركتيكا”، فعلى رغم ارتفاع متوسط درجات الحرارة العالمية فإن فصول الشتاء في القطب الجنوبي كانت لا تزال تنتج كميات هائلة من الجليد البحري، وفي الواقع ظلت كمية الجليد حول القارة تزداد بشكل طفيف حتى عام 2015، لكن خلال الأعوام السبعة الأخيرة حدث تحول مفاجئ في هذا الاتجاه.
وتتابع قائلة “إذا ما ألقينا نظرة على رسم بياني لعام عادي فسنلاحظ ارتفاعاً ملحوظاً في كمية تكوين الجليد التي تتشكل في الفترة الممتدة ما بين فبراير (شباط) ونوفمبر (تشرين الثاني)، ولا سيما في هذا الوقت من العام”.
وتضيف، “إذا ما قمنا برسم ذلك سنوياً فيمكن رؤية مجموعة من الخطوط المجمعة والمحاذية لبعضها بعضاً وتوضح طريقة نمو الجليد البحري كل عام، لكن إذا نظرنا إلى عام 2022 فقط فسنرى أن المعدل كان أدنى من تلك الخطوط وهو تحديداً في الجزء السفلي منها، ولم يبد الأمر وكأن نمو الجليد ظل ثابتاً، بل وصل إلى أدنى مستوى على الإطلاق، وعندما نأخذ في الاعتبار بيانات هذا العام فيمكننا أن نرى أن المعدل بعيد جداً من أي مستوى رأيناه منذ بدأنا تسجيل هذه القياسات عام 1979”.
وتشير البيانات إلى أن حجم الجليد البحري خلال شهر يوليو (تموز) كان أقل بنحو 15 في المئة من المتوسط السنوي على المدى الطويل، وفي العام الماضي الذي شهد مستوى منخفضاً على نحو قياسي، كان حجم الكتلة الجليدية أقل بنحو ستة في المئة من المتوسط على المدى الطويل، وأكثر من مليوني كيلومتر مربع من الجليد لم يتجمد.
وتقول عالمة المناخ القطبي هولمز إنه “إذا أخذنا متوسط مساحة جليد البحر حول الساحل فإن الجليد البحري سيمتد على بعد نحو 1000 كيلومتر منه، لكن قياسات هذه السنة تشير إلى أنه تراجع بنحو 100 كيلومتر عما كان عليه في عام عادي”.
وتضيف، “المفاجأة كبيرة بالفعل، إذ يشير الأفراد الذين عملوا في هذا المجال لعقود من الزمن في بعض الحالات إلى أنه أمر صادم”.
وتبيّن من خلال استخدام مجموعات بيانات نموذجية تعود لنحو 120 عاماً، قبل حتى الاستعانة بتكنولوجيا الأقمار الاصطناعية بفترة طويلة، أنه لا توجد سابقة لمستويات منخفضة من الجليد مثل التي نراها في الوقت الراهن.
وقد يكون من الصعب التعبير بشكل كاف عن حجم هذه الحال الاستثنائية، فالبيانات التي جمعت منذ عام 1970 تشير إلى احتمال حدوث مثل هذا الانخفاض الكبير في الجليد البحري مرة واحدة كل 7500 مليون عام إذا لم يتغير مناخ العالم.
ومع ذلك تنبه الدكتورة هولمز إلى أن البيانات الراهنة قد لا تكشف بشكل كامل السلوك الطبيعي لمدى امتداد الجليد البحري، وتقول إن “هناك سبباً للاعتقاد من خلال إلقاء نظرة على السجلات البديلة والاستقطاعات والنماذج الأخرى، بأن السجلات لا تقدم صورة كاملة، ومن الطبيعي أن تكون هناك فترات زمنية تصبح فيها مستويات الجليد البحري أقل حجماً”.
ونتيجة لذلك لا يمكن للعلماء توجيه أصابع الاتهام بشكل قاطع إلى تغير المناخ الذي تسبب به الإنسان على رغم وجود أدلة قوية تشير إلى أن هذا الجانب يشكل جزءاً رئيساً من الصورة.
ويأتي الانخفاض القياسي للجليد، مع بقاء متوسط درجات حرارة سطح البحر عند مستوى قياسي مرتفع، بدءاً من مايو (أيار) من هذه السنة. وفي الأول من أغسطس (آب) الجاري تجاوزت حرارة سطح المحيط المستوى الأعلى لها على الإطلاق وهو 20.96 درجة مئوية، ويعد ذلك أعلى بكثير من المتوسط في هذا الوقت من العام وأكثر سخونة من الرقم القياسي السابق المسجل خلال مارس (آذار) عام 2016، كما توضح “خدمة كوبرنيكوس لتغير المناخ التابعة للاتحاد الأوروبي” EU Copernicus Climate Change Service
ويشار إلى اعتماد القياسات المأخوذة بين خطي العرض 60 درجة شمالاً و60 جنوباً لاستبعاد المناطق التي تتأثر عادة بالجليد البحري وإظهار حجم الطاقة التي تمتصها المحيطات المفتوحة، وفيما تنذر نماذج الاحتباس الحراري بارتفاع درجات حرارة المحيطات، فإن مدى الانحراف الاستثنائي هذا العام يدفع إلى مزيد من البحث لفهم الأسباب الكامنة وراء هذه القفزة الكبيرة على نطاق عالمي.
والسؤال هو ماذا يمكن أن تكون عليه آثار الانخفاض السريع للجليد البحري؟
ارتفاع مستوى سطح البحر
يتمثل مصدر القلق الواضح للبشر في خطر ارتفاع مستوى سطح البحر، وإذا ما تكرر نمط معزز لفقدان الجليد البحري فقد تكون لذلك تداعيات كبيرة على مليارات الأفراد حول العالم، وقد يكون الجليد البحري طبقة رقيقة نسبياً لكنها تحدث تأثيراً عازلاً كبيراً على الأمواج مما يحمي الرفوف الجليدية في القارة القطبية الجنوبية من التفكك والذوبان بسرعة أكبر في البحار الهائجة.
وتعتبر الجروف الجليدية التي يمكن أن ترتفع فوق البحر بسماكة تصل أحياناً إلى 600 متر امتدادات عائمة للأنهار الجليدية في البر الرئيس للقارة القطبية الجنوبية، ويؤدي التعرض المتزايد للمياه المفتوحة إلى تكسر الجروف الجليدية بوتيرة أسرع، مما يؤدي بدوره إلى تسريع تدفق الأنهار الجليدية إلى البحر، وتالياً إلى ارتفاع مستوى سطح المياه.
وعلى سبيل المثال تبلغ مساحة نهر ثويتس Thwaites الجليدي غرب القارة القطبية الجنوبية، ويعرف أحياناً باسم “يوم القيامة الجليدي”، مساحة بريطانيا، أي 74 ألف ميل مربع (191.659 ألف كيلومتر مربع)، ولديه أحد أكبر الجروف الجليدية، لكنه يعد أيضاً أحد أكثر الجروف تقلباً وعدم استقرار في القارة، ويشكل أربعة في المئة من ارتفاع المستوى العالمي لسطح البحر، ولديه القدرة على رفع هذا المستوى بنحو قدمين (60 سنتيمتراً).
وتشتمل القارة القطبية الجنوبية على كميات هائلة من الجليد، نحو 90 في المئة من جليد العالم كله، مع قدرة قصوى على رفع مستوى سطح البحر بنحو 70 متراً إذا ما ذاب الجليد كله فيها، ومع ذلك فإن المرة الأخيرة التي خلت فيها “أنتاركتيكا” من الجليد كانت قبل 34 مليون عاماً في الأقل، عندما كانت تركيزات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي أعلى من 760 جزءاً في المليون، وكانت درجات الحرارة أعلى بنحو أربع درجات مئوية مما هي عليه اليوم، وهي ظروف يعتقد أنها لا تزال بعيدة آلاف السنين من الحدوث مرة أخرى.
بلوغ مستويات حرجة
وقد يسبب استمرار انخفاض الجليد البحري أيضاً تدهوراً في “حلقة التغذية المرتدة” [حال يؤدي فيها تغيير معين في نظام المناخ إلى مزيد من التغييرات التي تزيد من التأثير الأصلي]، مما يؤدي إلى مزيد من الاحتباس الحراري العالمي، ذلك أن الانعكاس العالي أو ظاهرة “ألبيدو” albedo [قياس قدرة سطح الماء على عكس ضوء الشمس] لسطح أبيض مغطى بالجليد، يعكس كمية كبيرة من طاقة الشمس إلى الفضاء، فمن دون الجليد يتعرض المحيط المفتوح المظلم الذي يمتص الطاقة مباشرة لأشعة الشمس، ويؤدي ذلك لاحقاً إلى ارتفاع درجة حرارة المحيط مما يزيد إعاقة تكوين الجليد.
وهناك عملية مماثلة قيد الحدوث بالفعل في النصف الشمالي للكرة الأرضية، وهي أحد أوضح الأسباب لظاهرة تضخم القطب الشمالي، إذ ترتفع حرارة هذا القطب بوتيرة أسرع بكثير مقارنة بالمتوسط العالمي، ومع انحسار كتلة الجليد البحري يمكن أن تبدأ عملية مماثلة في نصف الكرة الجنوبي.
التأثيرات في التنوع البيولوجي
قد يكون لفقدان الجليد البحري انعكاسات مدمرة على إحدى أكثر مناطق العالم تنوعاً بيولوجياً، ويضاف إلى ذلك أن تحديات العيش في الظروف القاسية للمحيط الجنوبي تعني أن معظم الأنواع هناك طورت أنماطاً محددة من التكيف تتناسب مع البيئة، ومن شأن التغييرات في توزيع الجليد البحري أن تؤثر في الأنواع البحرية من خلال تغير مستويات الضوء في المحيط وطرق تأثير الملوحة والتبدلات في حركة التيارات على تحريك العناصر الغذائية حول البحر، وكذلك الجليد البحري باعتباره موطناً طبيعياً في حد ذاته.
وتعتمد طيور البطريق والفقمات على الجليد البحري، فيما يوفر أيضاً منطقة جذب للصيد بالنسبة إلى حيوانات مائية أخرى مثل الحيتان القاتلة.
وفي المقابل يعد الجليد مصدراً رئيساً للكائنات الحية الصغيرة مثل العوالق والـكريليات التي تلعب دوراً رئيساً في السلسلة الغذائية.
وتقول كبيرة علماء الأحياء في مركز “المسح البريطاني للقطب الجنوبي” كاترين لينس في هذا الإطار، “نحن نعلم أن الطيور البحرية مثل القطرس كما الفقمات، ولا سيما منها فقمات الفراء، تمر بدورات سكانية تتقلب بين أعوام جيدة وأخرى سيئة، وهذه الظاهرة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بنسبة وفرة والـكريليات في المحيط الجنوبي”.
وتضيف، “تعتمد الحيتان على الـكريليات كمصدر للغذاء، وهناك مناطق يمكن أن تكون فيها تركيزات هائلة لمئات الملايين من أسماك الـكريليات التي تسبح حولها، ويعد إجمال الكتلة الحيوية للكريليات أقل بقليل من الكتلة الحيوية للبشر على الأرض. إنها وفيرة للغاية لكن وجودها يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالجليد البحري، وخلال مرحلة معينة من دورة حياتها، عندما تكون يافعة، فإنها تعتمد على وجودها تحت الجليد البحري”.
وتنبه الدكتورة لينس إلى أن تناقص الجليد البحري سيؤثر في الـكريليات والطيور والحيتان، مشيرة إلى أنه “على مدى العقد الماضي عادت أعداد الحيتان الزرقاء والحيتان الزعنفية والحيتان المنكية إلى الظهور مرة أخرى، مع تزايد تعافيها بعد تراجع عمليات صيدها، وأخذت تفد إلى مناطق معينة في المحيط الجنوبي لتتغذى على الأعداد الوفيرة من الـكريليات قبل موسم تكاثرها”.
وتضيف، “إن التنوع البيولوجي [في أنتاركتيكا] معقد، فنحن نتحدث عن 700 نوع من الأنواع البحرية التي تعيش في المحيط المفتوح و8500 نوع آخر من الأنواع الموجودة في قاع البحر، و8 آلاف نوع آخر يعيش في المحيط الجنوبي، ويعتمد بشكل أو بآخر على الظروف البيئية التي يضطلع فيها الجليد البحري بدور رئيس”.
وتخلص عالمة الأحياء إلى القول “باختصار أتوقع انخفاضاً في التنوع البيولوجي في أعماق البحار والمحيطات، فلدينا بعض أنواع البطريق التي لا تتكاثر إلا على الجليد البحري، أما بالنسبة إلى طيور البطريق الإمبراطورية وطيور البطريق ’آديلي‘ فلا ندري أين يمكن أن تتكاثر إذا لم يتبق لدينا جليد بحري، ونحن لا نعرف حقيقة ماذا سيحدث”.