تَقاسَمَ المشهدَ اللبناني أمس تفعيلُ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي حركته الديبلوماسية التي حملتْه إلى عمان والقاهرة حيث التقى وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، والتسخينُ الأعلى نوعياً لجبهة الجنوب من «حزب الله» غداة خطابِ أمينه العام السيد حسن نصرالله الذي مدّد العمل بـ «السَيْر بين النيران» مؤكداً «نحن في الحرب» من دون أن يعلنَ الحربَ، وتَرَكَ مسافةً بين «إسناد غزة» على ما يفعله منذ 8 أكتوبر في الميدان وبين الانزلاق الكامل إلى مطحنة الدم والدمار، وهي المسافة التي تفصل واقعياً طهران عن حرْق «خطوط الرجعة» في معركةٍ لم تَعُد مع إسرائيل بل رسّمت الأساطيل الأميركية في المتوسط حدودَها و «خطوطها الحمر».
وفيما كانت تل أبيب «تقلّب» كل أوجه خطاب نصرالله و«رسائله المشفّرة»، وسط خشيةٍ عبّر عنها رئيسُ الوزراء السابق أيهود باراك من «أن علينا الاستعدادَ لاحتمال أنه يهدّئنا لأنّه ينوي تنفيذ هجوم مفاجئ»، كان قلَقٌ لدى أطراف لبنانية من أن تسيء إسرائيل قراءةَ إطلالة الأمين العام لـ «حزب الله» التي حَمَلَتْ «ارتداعاً ذاتياً» – يرتكز على عناصر عدّة ترتبط بمقتضيات المرحلة وحساباتها إيرانياً وتوازن الردع الذي أرستْه واشنطن بالدرجة الأولى – وتَعتبرها دليل ضعف يحفّزها على الذهاب أبْعد على جبهتها الشمالية في محاولةٍ لاستدراج حلّ «متعدّد الرأس» يتيح عبر «توزيع الخسائر» إعطاءَ انطباعٍ بـ «انتصارٍ بالنقاط».
ولم يكن عابراً تكثيفُ ميقاتي اتصالاته الديبلوماسية في كل من الأردن ثم مصر في مسعى لإبقاء لبنان بمنأى عن بركان غزة وربْطه بالمسارات التي يُعمل عليها لشق طريق حلّ سياسي شائك، وذلك على وقع دخانٍ هو الأكثر سواداً لف الجبهة الجنوبية وبدا محاولةً للتغطية على ما اعتُبر مهادنةً مفاجئة من نصرالله الذي جرى التوقف عند مفصليْن في إطلالته:
– الأولى أنها هدأت عملياً مَخاوف مَن اعتقدوا أن «حزب الله» يقترب من الضغط على زناد الحرب الكبرى وأبقتْ هذا الاحتمال في وضعية ON HOLD عبر ربْطها نظرياً «بمسارِ وتطور الأحداث في غزة والأمر الثاني سلوك العدو الصهيوني تجاه لبنان»، فيما الأبعاد العميقة لهذا الموقف عبّر عنها «تبرؤ» الحزب وإيران من قرار «طوفان الأقصى» وتنفيذه «الذي كان فلسطينياً 100 في المئة ولم يعلم به أحد من حركات ودول محور المقاومة».
– والثاني ركونه الى ما وُصف بـ «تجزئة الساحات» في الردّ «بالمفرّق» على بدء الاجتياح البري، سواء عبر استهداف قواعد أميركية توعّدها بـ «العدّة اللازمة التي أعددناها» مستحضراً مرحلة الثمانينات في التعرّض لها (في لبنان)، أو من خلال محاولاتٍ لضرب إسرائيل من اليمن «بصواريخ ومسيَّرات لابد أن تصل في نهاية المطاف الى ايلات وقواعد إسرائيلية جنوب فلسطين»، وذلك تَلافياً لجرّ كل محور الممانعة إلى «زر تفجيرٍ» قد ينفجر بكل ساحاته في ضوء الحسابات الدقيقة التي فرضها الحضور الأميركي المباشر.
ميقاتي وبلينكن
فمن عمان وقبيل اجتماع بلينكن بعدد من نظرائه العرب، أطلّ ميقاتي على المسار الذي يسعى وزير الخارجية الأميركي للعمل عليه لإخماد «كرة النار»، فكان لقاء شاركت فيه مساعدة الأخير لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف.
وخلال الاجتماع، أكد ميقاتي«أولوية العمل للتوصل الى وقف اطلاق النار في غزة لوقف العدوان الإسرائيلي المستمرّ هناك، وكذلك العمل على وقف العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان وسياسة الأرض المحروقة التي تتبعها إسرائيل باستخدام الأسلحة المحرّمة دولياً للامعان في إحداث المزيد من الخسائر البشرية وتدمير المناطق والبلدات الجنوبية».
وشدد رئيس الحكومة على«أن لبنان الملتزم الشرعية الدولية وتطبيق القرار الدولي الرقم 1701، وبالتنسيق مع اليونيفيل، يطالب المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل لوقف التعديات والانتهاكات الإسرائيلية اليومية على أرضه وسيادته براً وبحراً وجواً».
بدوره، شدد بلينكن على«أنه يبذل جهده لوقف العمليات العسكرية لغايات إنسانية على أن يترافق ذلك مع بدء البحث في معالجة ملف الأسرى».
وبعد اللقاء، نشرَ بلينكن منشوراً عبر حسابه على منصة «إكس»، تحدث فيه عن اللقاء الذي جمعه بميقاتي.
وقال: «من المهم أن نتأكد من عدم انتشار الصراع بين إسرائيل وحماس إلى أماكن أخرى في المنطقة. لقد ناقشتُ مع رئيس الحكومة اللبنانية السُّبل لمنع حدوث ذلك وتأمين المساعدات الإنسانيّة للشعب الفلسطيني، كما ناقشنا حاجة لبنان المُلحة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية».
وأعلن الناطق باسم الخارجية الأميركية مات ميلر أن بلينكن عبّر خلال لقاء ميقاتي «عن قلقه واهتمامه العميق في شأن تبادل إطلاق النار على طول الحدود الجنوبية للبنان مع إسرائيل».
وقال إن «بلينكن شكر رئيس الوزراء على قيادته في منع لبنان من الانجرار إلى حرب لا يريدها الشعب اللبناني، فضلاً عن جهوده مع الشركاء الإقليميين لتحقيق سلام دائم ومستدام في المنطقة».
وأضاف ميلر «ناقش بلينكن الجهود الأميركية لتأمين المساعدة الإنسانية للمدنيين في غزة»، مشيراً إلى أن «لبنان يحتاج إلى اختيار رئيس لقيادة البلاد خلال الأزمات الإقليمية والمحلية».
وجاء اجتماع ميقاتي وبلينكن غداة إعلان الناطق باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي «نحن وشركاؤنا كنا واضحين: على حزب الله وأطراف آخرين، سواء كانوا دولاً أو لا، ألا يحاولوا استغلال النزاع القائم».
ميقاتي والسيسي
ومن عمان انتقل ميقاتي إلى القاهرة حيث استقبله السيسي. وخلال الاجتماع، عبّر رئيس الحكومة عن تقديره لوقوف مصر الدائم الى جانب لبنان، ودعمها له على الصعد كافة.
وقال «إن مصر التي تحمل دائماً هموم العالم العربي، تبذل جهداً كبيراً لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة ووقف المجازر التي ترتكب في حق الفلسطينيين. ونحن ندعم موقف الرئيس المصري برفض تهجير الفلسطينيين من أرضهم، وسعيه لايجاد حل يبدأ بوقف إطلاق النار وحماية المدنيين والعمل تالياً على ايجاد حل دائم للقضية الفلسطينية يحفظ حقوق الفلسطينيين في أرضهم ودولتهم المستقلة».
صاروخ «بركان»
وفي موازاة ذلك، كان الميدان يشهد رَفْعاً لوتيرة عمليات حزب الله وطبيعتها كما للقصف الإسرائيلي، وذلك غداة تحذير نصرالله أيضاً من «أن بعض التمادي الذي طال بعض المدنيين سيعيدنا إلى قاعدة المدني مقابل المدني».
وقد انطبعت المواجهات يوم أمس بغموضٍ تعمّد «حزب الله» ترْك الإسرائيليين يحاولون تبديده، في ما خص نوعاً جديداً من الصواريخ استخدمها في قصف موقع «جل العلام»، حيث أفاد ناشطون قريبون من الحزب بداية أنها من نوع «بركان»، قبل أن تُسحب هذه البوستات عن منصة «أكس»، لتتولى وسائل إعلام إسرائيلية الحديث عن أنها «المرة الأولى يطلق الحزب صاروخيْ بركان نحو موقع للجيش الإسرائيلي»، مع إشارة إلى أن هذا النوع يصل مداه إلى 10 كيلومترات ويحمل رأساً متفجراً يراوح وزنه بين 100 إلى 500 كيلوغرام، وسط اعتبار أن هذا الأمر يُعتبر بمثابة تصعيد في عمليات الحزب ضد إسرائيل.
وذكرت تقارير أن «جل العلام» يُعد من أكبر المواقع الإسرائيلية عند الحدود مع لبنان ويمتد في عرض 300 متر وهو من المواقع المحصنة جداً ويملك ميزة وجود طبقات متعددة تحت الأرض.
ولم يقلّ دلالة توزيع الإعلام الحربي لـ «حزب الله» مشاهد تُظهر تفجير عبوة ثقيلة تم من خلالها فتح ثغرة في الجدار الفاصل على الحدود، وذلك بعدما أعلن في بيانات عدة استهداف مواقع إسرائيلية، وأكد في أحدها تنفيذ هجمات «متزامنة ظهر السبت بالصواريخ والأسلحة المناسبة على عدد من مواقع جيش الاحتلال الصهيوني وهي: موقع جل العلام، الجرداح، حدب البستان، المالكية والمطلة، وحقّقنا فيها إصابات مباشرة إضافة إلى تدمير التجهيزات الفنية».
وفيما برز أيضاً أمس استهداف «حزب الله» (نعى 7 عناصر سقطوا منذ 2 نوفمبر) وإسقاطه لمنطاد تجسس رفعه الجيش الإسرائيلي صباحاً فوق مستعمرة مسكاف عام، أعلن الجانب الإسرائيلي أنه قصف خليّتين ونقطة مراقبة تابعة لحزب الله رداً على محاولاتٍ لإطلاق النار من لبنان باتجاه الأراضي الإسرائيلية.
واستُتبع استهداف المواقع الإسرائيلية بعمليات قصف بعضها طاول الأحياء السكنية في كفركلا، ما أدى إلى إصابة منزل وسط البلدة وآخر قيد الإنشاء على الطريق العام ويُشرف على مستعمرة المطلة، وكان الصحافيون يستخدمونه للتغطية.
كما اشتعلت النيران في سيارة قديمة مركونة بداخله.
ونفذ الطيران الحربي والمسيرات غارات استهدفت المناطق الحرجية في الناقورة واللبونة وعيتا الشعب ورميش وكفرحمام وكفرشوبا، فيما قصفت المدفعية أطراف علما الشعب وراميا وعيترون ويارين طيرحرفا والضهيرة وبليدا ومحيبيب وميس الجبل وحولا ومركبا ووادي هونين.
غالانت: «خطأ» من نصرالله
من جانبه، زار وزير الدفاع الاسرائيلي يوآف غالانت، أمس، الحدود الشمالية وأجرى تقييماً للوضع في مركز قيادة الفرقة 146 واطلع على «الأنشطة العملياتية».
وقال «نحن ندافع عن حدودنا الشمالية ونقوم بعمليات في غزة، هذه هي أولوياتنا. ليس لدينا مصلحة في الحرب على حدودنا الشمالية، ولكننا مستعدون لكل مهمة محتملة».
وأضاف غالانت «يحتفظ سلاح الجو الإسرائيلي بقدراته للدفاع عن الشمال ضد حزب الله».
وقال «لقد ارتكب يحيى السنوار (في اشارة لزعيم«حماس») خطأ وحدد مصير حماس في غزة. وإذا أخطأ نصرالله فهو الذي سيحدد مصير لبنان».