أما المعاش التقاعدي الذي قد يتقاضاه اختيارياً إذا كان من موظفي الإدارة العامة والعسكريين، والذي يعتبر نظام ادخار هدفه توفير دخل لفئة معينة بعد التوقف عن العمل لضمان حياة كريمة تتوافر فيها أدنى مقومات العيش فلم يعد من الممكن أن يُعتمد عليه، خصوصاً مع تآكل الرواتب في ظل الأزمة الاقتصادية.
أفق مسدود بغياب التمويل
بعد أن قضى الموظف اللبناني حياته في العمل في مؤسسة ما، فيجد نفسه مع بلوغ سن التقاعد خالي اليدين بغياب أي نظام حماية اجتماعية.
وعلى رغم مساعي وجهود جهات معنية عدة لإيجاد حلول لهذه المعضلة، إلا أن المحاولات كلها تبوء بالفشل حتى اللحظة بغياب التمويل، فهل يمكن أن يستعيد الموظف شيئاً من خسارته التي قضت على عمره بسبب أزمة المصارف، عبر تعويضات نهاية الخدمة في الأقل؟
وبحسب النظام اللبناني يبلغ الموظفون العموميون سن التقاعد عند 64 سنة، لكن هذا السن يختلف بين الأسلاك العسكرية والمدنية المختلفة، إذ يبلغ القضاة مثلاً سن التقاعد عند 68 سنة، أما في السلك العسكري فقد يختلف السن أيضاً بحسب الرتبة، فيبدأ من 52 سنة لدى الجنود ويصل إلى 59 سنة مع ارتفاع الرتب، بينما يتقاعد قائد الجيش عند 61 سنة.
لكن على عكس الدول الأخرى التي تضمن حياة كريمة للفرد بعد بلوغه سن التقاعد، يعني بلوغ هذا السن بالنسبة إلى كثيرين في لبنان مواجهة مستقبل غامض تتدنى فيه فرص الحصول على حماية اجتماعية، وهو واقع يزداد اليوم قتامة أكثر من أي وقت مضى، وعلى سبيل المثال فمن المفترض أن يتقاضى موظف القطاع الخاص تعويض نهاية الخدمة الذي يُدفع مرة واحدة ويعادل راتب شهر واحد عن كل سنة خدمة على أساس الراتب الأخير له، فيما لا يوجد له معاش تقاعدي. لكن ما قيمة هذه الرواتب اليوم بعد انهيار قيمة الليرة اللبنانية في مقابل ارتفاع سعر صرف الدولار؟
يوضح المدير العام للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الدكتور محمد كركي في حديث إلى “اندبندنت عربية” أن الصندوق أضاف زيادة في فرع المرض والأمومة والتعويضات العائلية بمعدل 10 أضعاف، فيما بقي مصير تعويضات نهاية الخدمة مجهولاً مع فشل كل المساعي حتى اللحظة لحل هذه المسألة.
ويقول كركي، “ثمة مساع حثيثة من قبل مختلف الجهات المعنية، ونحاول جاهدين توفير الحلول، وكنا قد اقترحنا تطبيق سعر صرف على أساس 15 ألف ليرة لبنانية في مقابل الدولار الأميركي من أجل التعويضات، إنما على رغم كل المحاولات لإتمام ذلك أو أقله رفع سعر الصرف إلى 3900، بقي التمويل المشكلة الأساس بما أن سياسة المصرف المركزي حالياً تقضي بعدم ضخ السيولة بالليرة اللبنانية”.
عرقلة نظام المعاش التقاعدي لأسباب واهية
ونظراً إلى عدم وجود حلول حتى الآن أنشئ نظام تقاعدي بالتعاون مع منظمة العمل الدولية يخص المتقاعدين بين عامي 2022 و2026، ويطرح إمكان تقاضي تعويض نهاية الخدمة اختيارياً عند انتهاء الخدمة كمعاش تقاعدي بدلاً من تقاضيه دفعة واحدة، وذلك على أثر تسديد الاشتراكات للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وكلما زادت الاشتراكات يزيد المعاش بصورة تصاعدية، ويحتسب المبلغ على أساس عدد سنوات الخدمة كأي معاش تقاعدي.
ووفق هذا النظام يحافظ المواطن على نسبة 90 أو 95 في المئة من قيمة أجره، وعلى رغم أنه كان من الممكن تأمين التمويل اللازم للمضي قدماً في هذا النظام إلا أنه توقف العمل به وإن كان اختيارياً، إذ يتطلب مرسوماً حكومياً لتحديد الاشتراكات المطلوبة.
وعلى رغم توافر إجماع شبه كلي عليه تعذر وصول هذا النظام إلى خواتيم سعيدة، تماماً كما حصل مع نظام التأمين ضد البطالة بداية عام 2022، والذي كان يهدف إلى تأمين دخل للعائلات بعد توقفه نتيجة فقدان المعيل لعمله بعد أن بلغت نسب البطالة في لبنان أرقاماً قياسية. ويقول كركي إن العرقلة أتت بسبب رفض عضوين في اللجنة التي كانت تدرس المشروع لبعض ما ورد فيه وتسجيلها بعض الملاحظات عليه، علماً أن الشوائب كان يمكن معالجتها والدراسات أظهرت أن المعاش التقاعدي أفضل من أخذ التعويض دفعة واحدة، بحسب كركي.
من جهة أخرى فطالما أنه لم يتخذ قرار في الدولة لجهة اعتماد سعر الصرف لتعويضات نهاية الخدمة على أساس تسعيرة 3900 أو 15 ألفاً فلا يبدو أنه ثمة حلولاً أخرى في الأفق.
التعويض “فريش” بالليرة اللبنانية
وفي المقابل ثمة بارقة أمل مع الانتقال إلى نظام “الفريش” (نقداً) بالليرة اللبنانية الذي يفرض على أصحاب العمل تسديد مبالغ التسوية نقداً بالليرة مع بداية عام 2024، وحينها يسدد الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي التعويض نقداً بالعملة اللبنانية، فبعد أن كانت مبالغ التسوية تسدد بالشيكات المصرفية في معظم الأحيان، وبغياب الحسابات المصرفية “الفريش” للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، كانت التعويضات تخسر من قيمتها أكثر بسبب دفعها عبر الشيكات المصرفية.
أما في حال توافر السيولة النقدية فيمكن تسديد التعويض للفرد نقداً أيضاً، ويعتبر هذا حلاً ولو جزئياً للمشكلة، وفي الأقل يكون المواطن قادراً على التصرف بأمواله طالما أنه خسر قيمة تعويضه بانتظار توافر حلول لهذه المعضلة، فوفق كركي ستستمر المساعي للتوصل إلى اعتماد سعر صرف أعلى على أساس الدولار للحد من خسائر المواطنين بعد أن تآكلت رواتبهم نتيجة الأزمة الاقتصادية، وفقدت تعويضات نهاية الخدمة قيمتها في ظل الغلاء المعيشي وارتفاع سعر صرف الدولار.
وكان رفع الحد الأدنى للأجور من 675 ألف ليرة لبنانية إلى 9 ملايين ليرة لبنانية ترك أثراً إيجابياً في التعويضات، إذ أصبح التصريح بالرواتب للضمان أعلى بما يقارب 14 ضعفاً للضمان، وتستوفى على أساسه الاشتراكات مما أسهم في رفع التعويضات العائلية والمدرسية تلقائياً.
وفي ظل الانهيار الاقتصادي يبقى صرف المعاش التقاعدي مدى الحياة بدل تعويض نهاية الخدمة وفق النظام المقترح من الحلول الاختيارية الفضلى للمواطن على أساس اشتراكات يسددها، علماً أن عدد الأفراد المتقاعدين بين عامي 2022 و2026 والمعنيين بهذا النظام قد لا يتخطى 10 آلاف أو 15 ألفاً.