أزقة بيروت وشوارعها وأحياؤها ومبانيها وقصورها وبيوتها و«بسطات» الباعة وأهلها، يستقبلونك في هذا المعرض، ويخبرونك عن تاريخ مدينة كانت انطلاقتها العمرانية نموذجاً. لا شعورياً، تحضر قصيدة الراحل نزار قباني «يا ست الدنيا يا بيروت… مَنْ باع أسوارك المشغولة بالياقوت؟… ها نحنُ أتينا معتذرين ومعترفين أنّا أطلقنا النار عليك بروح قبليّة… فقتلنا امرأة كانت تُدعى الحرية».
ترخي المقارنة بين بيروت الماضي واليوم شعوراً بالأسى على مدينة لم تُسمَّ عن عبث «أم الشرائع». تأسف لزوال معالم الحضارة عنها وغلبة التخلّف.
يضمّ المعرض تاريخ التقاط أول صورة فوتوغرافية في المدينة عام 1840 وحتى 1918. ومن خلال مجموعة صور ومخططات وخرائط، تكتشف بيروت كما لم ترها من قبل. منذ دخولك، إلى حين غوصك في المعروضات الممتدة إلى الطبقة الثانية من مبنى متحف «بيت بيروت»، يغمرك الشعور بالفخر ونقيضه. تفتخر بتاريخ مدينة شقّ طريقها «قطار بيروت» وسكّته الحديد عام 1898. من ثَم تحزن، في عام 2023، لكون القطار بات ذكرى.
وأنت تجول في المعرض الضخم بمحتواه وأعداد لوحاته التي تغطي كامل صالات «بيت بيروت»، تستوقفك محطات مختلفة. الصورة تتكلّم وتختصر الحقبات؛ واحدة منها تُعرّف إلى درب نهر كان يقطع وسط بيروت، تحول لاحقاً إلى «شارع غورو» باتجاه منطقة المصيطبة. وفي أخرى، تتوقف عند منطقة المدوّر بكاميرا جان باتيست شارليه عام 1867. وبكاميرا لويس فين التي تمتاز بالتقاط مناظر بيروت البانورامية، يُطالعكَ مقهى كان يقع في «حرج بيروت» وغابته الصنوبرية. وتشاهد شباب المدينة في زيّهم التقليدي، ومئذنة مسجد بيروت وكنيسة مار جريس وبرج المدرسة الألمانية وباب إدريس باتجاه ستاركو.
تعيدك الصور إلى زمن بيروت الجميل. إلى بيروت القديمة وباعة البرتقال وخان الموسيقى، وإلى منظر عام لوادي أبو جميل وآخر لقصر آل جدي في زقاق البلاط. أسطح بيروت العتيقة تحت أنظارك، تبهرك بتركيبتها العمرانية. كذلك المنظر العام للمدينة يلفّها السور، في صورة التقطها أونوري لوف عام 1867.
تُقلب صفحات تاريخ بيروت الغني مع أول مَن استخدم فن الصورة.
ومع الإخوة مانسون وجوليوس لوتفيد وجان باتيست شارليه، والإخوة صرافيان وماكس فون أوبنهايم ولويس فين وغيرهم… تزور بيروت، صامتة مرات ومتألّقة بتاريخ تعتزّ به مرات أخرى. يصيبك الحنين لمدينة كانت تزخر بالتطوّر.
في هذه الجولة، رافق «الشرق الأوسط» صاحب «متحف نابو» في منطقة شكا الشمالية جواد عدره. سبق ونظّم المعرض عينه هناك، لكنه نقله إلى قلب العاصمة تكريماً لها. «إنها محاولة متواضعة حيال عمل ضخم يجب إبراز تفاصيله والاعتزاز به. فالتركيز في هذا المعرض لا يقتصر على ما ارتكبناه وغيرنا في حق مدينتنا وأنفسنا، بل نرغب في تشجيع الآخرين للحفاظ على ما تبقّى من مدينتنا». يتابع عدره: «الأهم، اليوم، هو العمل من هذا المنطلق الذي يجب أن يمتد إلى مدن لبنانية أخرى، من بينها طرابلس الفيحاء. ولعلّ الإهمال الذي تشهده هذه المدينة أسهم في الحفاظ على رونق مبانيها القديمة، وسننتقل مع المعرض قريباً إلى مناطق لبنانية مختلفة».
يلفتك عدره بكمية الاهتمام التي يبديها لمعرضه. فتشعر كأنه يعتني بشخص عزيز وهو يتجول حول اللوحات المعلّقة. ينحني ليلتقط ورقة تُعرف عن لوحة، ويمدّ يده نحو لوحة أخرى لصبح مستقيمة. يتوقف عند ثالثة ويقول إنها تعني له الكثير (صورة لمسجد بيروت). يختار لوحتين يعدّهما المفضّلتين لديه، إضافة إلى الأولى: «أحب كثيراً صورة سكة الحديد التي تشقّ وسط بيروت، والصورة البانورامية لمنطقة وادي أبو جميل».
بخطوات سريعة، يأخذك إلى صالة أخرى: «إنها صور شخصيات بيروتية ولبنانية عريقة تبرز البساطة التي ميّزتها». كما يتوقّف عند صورة تختزل أولاداً ضعفاء يعانون المجاعة، فيعلق: «هل تتخيلين أنّ هذه الصور تعود إلى أولاد في بيروت؟».
تكمل مشوارك، فتستوقفك لوحتان بالألوان للرسام بينجامين ماري، تصوّران منظراً عاماً لبيروت من منزل الكونت دولا فيرتي شامبينيول الواقع بجوار الكنيسة الكبوشية في وسط المدينة، وتظهر من خلالهما المساحات المزروعة من ساحة البرج، وصولاً إلى الأشرفية ومقبرة الباشورة. يوضح عدره: «إنها من اللوحات النادرة التي رُسمت بألوان مائية، تبرز جمال المدينة القديمة».
مئات الصور توزّعت على أجنحة عدّة في طبقتي المتحف، وردت في كتاب «بيروت 1840 – 1918» للباحثَين بدر الحاج وسمير مبارك، تؤكد وظيفة الصورة في رصد تطوّرات الأحداث.
في المعرض مجموعة نادرة من الخرائط القديمة التي استُخرج معظمها من كتاب «البحرية» (1525)، تمثّل مخطوطات عثمانية رسمها الرحالة بيري ريس.
كنز من نوع آخر، هو المعرض الذي يحطّ في المدينة حاملاً 100 عام من صفحات عاصمة قديمة تحوّلت إلى حديثة رغم تاريخ مضطرب؛ يستمر لغاية 8 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل في متحف «بيت بيروت» بمنطقة السوديكو.