فاضت مستشفيات غزة بالجرحى، إذ لم تعد الأسرّة تستوعب الأعداد التي تصلها، ما اضطر بعض المصابين إلى افتراش أرض الممرات والغرف منتظرين دورهم لتخفيف آلامهم، منهم من يحالفهم الحظ بتلقي العلاج، والخضوع إلى عمليات جراحية، من دون تأمين سرير لهم للمبيت لاستكمال رحلة تعافيهم، ومنهم من يفارقون الحياة قبل أن يتسنى لطبيب الكشف عليهم، بحسب ما يؤكده مدير عام مجمّع الشفاء الطبي، وهو المجمّع الأكبر في القطاع، الدكتور محمد أبو سليمة، لموقع “الحرة”.
“الوضع خرج عن السيطرة”، بحسب أبو سلمية “فالسعة السريرية للمجمّع تصل إلى 500 سرير، لكن يوجد الآن ما يقارب من الألف جريح ومريض، أي بمعدل الضعف، وقد امتلأت أقسام العناية المركزة بشكل كامل “.
الوضع ليس أفضل حالا في مستشفى غزة الأوروبي، فعند وصول المصابين إليه “يقوم أطباء بفرزهم بحسب خطورة إصابتهم، ليبدأ علاج الحالات المهددة بالموت،” وعلى رأسها بحسب مديره الدكتور يوسف العقاد “إصابات الرأس فالأوعية الدموية أي النزيف، ثم البطن والحوض وأخيراً العظم” فالأولوية كما يقول “لإنقاذ حياة الجرحى”.
وكذلك أكد أبو سلمية أنه “بدأت المفاضلة بين جريح وجريح حيث تعطى الأولوية للحالات الحرجة”.
في اليوم الأول للحرب وصل إلى مستشفى غزة الأوروبي “303 مصابين، منهم من تم علاجهم على الأرض، وبعضهم نزف حتى الموت قبل أن يصل دوره للدخول إلى غرفة العمليات”.
لكن الآن كما يشير العقاد “نخرّج المصابين في اليوم التالي من خضوعهم لعملية جراحية كي نفسح المجال أمام جرحى آخرين لتلقي العلاج”، لافتاً إلى ارتفاع عدد قاصدي المستشفى “بعد القصف الإسرائيلي العنيف على محافظتي خان يونس ورفح، مع العلم أن أكثر من 60 في المئة من الإصابات والقتلى الذين وصلوا كانوا من النساء والأطفال”.
وشنت إسرائيل غارات على قطاع غزة وأعلنت فرض حصار عليها عقب الهجوم الأكثر دموية على المدنيين في تاريخ الدولة العبرية والذي نفذته حركة حماس يوم السبت الماضي.
وأسفر الهجوم الذي شنته حماس واستهدف مدنيين بالإضافة إلى مقرات عسكرية عن مقتل المئات واختطاف العشرات، أغلبهم مدنيون وبينهم أطفال ونساء.
وقالت هيئة البث الإسرائيلية العامة إن عدد القتلى الإسرائيليين جراء هجوم حماس المصنفة إرهابية ارتفع إلى أكثر من 1300 شخص.
كما أسفر الرد الإسرائيلي الذي استهدف مناطق واسعة من غزة عن مقتل المئات، أغلبهم مدنيون وبينهم أطفال ونساء.
وأكدت وزارة الصحة في غزة، السبت، أن 2200 فلسطينيا لقوا حتفهم في ضربات جوية إسرائيلية على القطاع المحاصر، منذ يوم السبت الماضي.
نقص شامل
ولا يتوقف الأمر على الأعداد الكبيرة للجرحى وما يشكلونه من ضغط على الكوادر الطبية في غزة، بل يتعدى ذلك إلى نقص حاد في كافة المستلزمات الطبية والأدوية، منها أدوية التخدير.
ويقول العقاد: “هناك نقص حاد في هذه الأدوية، لكن لا يمكننا إجراء أي عملية من دونها”، في حين أكد أبو سلمية أن “أدوية التخدير بدأت تنفد وكذلك المستهلكات الطبية للعمليات، لذلك بعض العمليات نجريها من دون تخدير”.
حتى خضوع المصاب إلى عملية جراحية ونجاحها لا يعني نجاته، مع توقف أجهزة التعقيم في بعض المستشفيات، بسبب ارتفاع نسبة ملوحة المياه الارتوازية التي تستخدم لذلك، نتيجة انقطاع مياه الشفة، الصالحة للشرب.
ويؤكد مدير مستشفى غزة الأوروبي أن “عدم التعقيم سيؤدي حتماً إلى إصابة المرضى بالتهابات وبالتالي الموت، لذلك نحاول قدر المستطاع الاستعانة بمستشفيات أخرى للتعقيم أو شراء المياه الصالحة وهي عملية معقدة جدا”، وهو ما أكده أبو سلمية بالقول: “هناك أزمة تعقيم كبيرة في المستشفى”.
وعن تأمين وحدات الدم للمصابين يجيب العقاد “لا نقص لدينا، تعلن المستشفيات دائماً عن حملات تبرع، عدد كبير من الأشخاص يلبّون النداء، لكن المشكلة أن مستشفى غزة الأوروبي بعيد عن مركز المدينة، من هنا قد يجد البعض صعوبة في الوصول في ظل الوضع الحالي، كما أن منهم من يخشى القدوم أثناء تعرض المنطقة للقصف”.
ويشدد أبو سلمية على أن “الوضع مأساوي، بعض المستشفيات غير الحكومية وبعض المؤسسات تقدّم لنا تبرعات، لكنها لا تغطي حتى الحد الأدنى مما نحتاجه، فقبل الحرب كنا نعاني من نقص شديد في الأدوية والمستلزمات الطبية فكيف الآن؟”.
وحذّرت وزارة الصحة في غزة من أن نقص المستلزمات الطبية والأدوية سيؤدي إلى وضع “كارثي”، لا سيما “بعد أن شددت إسرائيل حصارها على قطاع غزة”، لافتة إلى أن “ثماني مستشفيات لا تكفي للتعامل مع كل الحالات في قطاع غزة الذي يبلغ عدد سكانه 2.3 مليون نسمة، رغم إعلانها حالة الطوارئ واستدعائها كل الطواقم الطبية للعمل”.
“انهيار المنظومة الصحية”
وتعاني المستشفيات في غزة من شح المياه وقرب انقطاع التيار الكهربائي، حيث تستند حاليا على المولدات التي تحتاج إلى الوقود لتشغيلها.
ويقول العقاد: “ستفند الكميات المتبقية من المحروقات، وبالتالي ستنقطع الكهرباء وهذا سيؤدي إلى توقف آلات الغازات الطبية (بينها الأوكسجين)، ما يعني أن جميع المرضى في العناية المركزة سيموتون خلال دقيقة”.
كذلك الحال كما يقول العقاد، في أقسام حضانة الأطفال، “فعلى سبيل المثال لدينا في المستشفى قسم حضانة الأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم الأسبوعين، وقسم عناية مركزة للأطفال الذين يتجاوزون الأربعة أسابيع من العمر، هؤلاء سيفارقون الحياة نتيجة توقف عمل أجهزة دعم الحياة”.
كما أنه لا يمكن إجراء عمليات من دون أجهزة الأوكسجين، ويقول العقاد: “نحن أمام خطر انهيار المنظومة الصحية خلال الساعات أو الأيام القليلة القادمة، إذا استمر الوضع على حاله”.
كلام العقاد يؤكده أبو سلمية بالقول “انقطاع التيار الكهربائي يعني خروج المستشفيات عن الخدمة وتحوّلها إلى مقابر جماعية، بعد الحكم على المصابين في العناية المركزة والأقسام الحرجة وأقسام غسيل الكلى والحضانات بالموت”.
ولفتت اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي إلى أن “المستشفيات في غزة تتحول إلى مشارح بسبب توقف الأجهزة الطبية جراء انقطاع الكهرباء”.
وتلقت هذه المستشفيات ضربة موجعة مع إعلان وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، الإثنين الماضي، فرض حصار كامل على القطاع، شمل الماء والكهرباء والوقود.
وكانت منظمة الصحة العالمية حذرت، الخميس، من أن النظام الصحي في غزة “بلغ نقطة الانهيار”، مؤكدة توثيق 34 هجوما على مرافق الرعاية الصحية في القطاع منذ يوم السبت الماضي، وفق ما ذكرته عبر موقعها.
وقالت المنظمة إن “الوقت ينفد لمنع وقوع كارثة إنسانية إذا لم يتم تسليم الوقود والإمدادات الصحية والإنسانية المنقذة للحياة بشكل عاجل إلى قطاع غزة وسط الحصار الكامل”.
الأطباء أمام “خيارات مستحيلة”
وفي الوقت الذي تحتاج فيه مستشفيات غزة إلى كل طواقمها الطبية، يواجه أفراد هذه الطواقم صعوبة في الوصول لاسيما المقيمين منهم في أماكن بعيدة عن مراكز عملهم، حيث هناك خطورة بحسب العقاد على حياتهم من القصف.
ويوضح “منهم من لا يتمكن من الوصول ومنهم من يمكث في المستشفى ليومين أو ثلاثة أيام أو حتى لا يغادره، ما ينعكس سلباً على أدائهم، والجمعة قتل ثلاثة من أهم طواقمنا الطبية نتيجة تعرّض منازلهم للقصف”.
ومن المشاكل التي تواجهها مستشفيات قطاع غزة، لجوء آلاف السكان إليها للاحتماء من القصف، ما يشكل إرباكا وضغطا إضافيين على الأطباء والممرضين.
ويقول العقاد: “هم يعتقدون خطأ أن المستشفيات مكان آمن رغم أن البعض منها لم يستثن من القصف، كمستشفيات الدرة وشهداء الأقصى والعودة ومستشفى العيون الدولي وغيرها من المستشفيات التي خرجت عن الخدمة بعد تعرضها للقصف إما مباشرة أو جزئيا أو في محيطها”.
“الوضع مأساوي وخطير جداً، لم تعهده مستشفيات قطاع غزة من قبل” بحسب أبو سلمية، الذي شدد على ضرورة “التدخل فورا لفتح ممرات آمنة لإدخال المستلزمات الطبية والأدوية والوقود”.
وذكرت الأمم المتحدة أن عشرات آلاف الفلسطينيين نزحوا، الجمعة، من مدينة غزة في اتجاه جنوب القطاع، بعد أن طلب الجيش الإسرائيلي من المدنيين المغادرة في اتجاه الجنوب “لحماية أنفسهم”، ما يرجح حصول عملية برية واسعة.
وتضمنت أوامر الإخلاء الإسرائيلية 22 مستشفى في القطاع، وهذا وضع الأطباء والعاملين في قطاع المجال الصحي أمام “خيار مؤلم”، وفق ما ذكرته منظمة الصحة العالمية.
وطالبت المنظمة، السبت، من إسرائيل سحب أوامر الإجلاء على الفور للمستشفيات في شمال غزة، بعد أن دعا الجيش الإسرائيلي المدنيين إلى التحرك جنوبا وإخلاء المستشفيات.
ودعت المنظمة إلى حماية المنشآت الصحية والعاملين في قطاع الصحة والمرضى والمدنيين.
وقالت المنظمة إنها بصفتها وكالة الأمم المتحدة المسؤولة عن الصحة العامة، “تدين بشدة أوامر إسرائيل المتكررة بإخلاء 22 مستشفى تعالج أكثر من ألفي مريض في شمال غزة”.
وأضاف “سيؤدي الإجلاء القسري للمرضى والعاملين الصحيين إلى تفاقم الكارثة الإنسانية وكارثة الصحة العامة الحالية”.
وأوضحت المنظمة في بيان “يواجه مديرو المستشفيات والعاملون الصحيون الآن خيارا مؤلما: التخلي عن المرضى المصابين بأمراض خطيرة وسط حملة القصف، أو تعريض حياتهم للخطر أثناء بقائهم في الموقع لعلاج المرضى، أو تعريض حياة مرضاهم للخطر أثناء محاولة نقلهم إلى مرافق لا تملك القدرة على استقبالهم”.
وتابعت المنظمة أنه “بأغلبية ساحقة، اختار مقدمو الرعاية البقاء والوفاء بقسمهم كمهنيين صحيين، بدلا من المخاطرة بنقل مرضاهم المصابين بأمراض خطيرة أثناء عمليات الإجلاء” مشيرة إلى أنه “لا ينبغي أبدا أن يضطر العاملون الصحيون إلى اتخاذ مثل هذه الخيارات المستحيلة”.