لم تتبدّد في اليوم الثاني من محادثاتِ الموفد الفرنسي جان – إيف لودريان في بيروت الالتباساتُ التي تحوط بجوهر التحرّك الذي يقوم به في “حقل الألغام” اللبناني الذي يختزله مأزق الانتخابات الرئاسية، والمدجّج بـ “أفخاخ” متشابكة تبدأ من الانهيار المالي الذي يبدو في “استراحة من بين عَصْفين”، ولا تنتهي بـ “قنبلةٍ موقوتة” جديدة يشكلها ملف النزوح السوري في موجته الثانية، مروراً بالنار التي لا تنطفئ في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في صيدا والتي تُخفي وراءها دخان الصراعٍ غير المكتوم داخل البيت الفلسطيني وعلى الإمرة فيه ببُعده الإقليمي المترامي فوق شعار “وحدة الساحات”.
وفيما واصل لودريان أمس لقاءاته مع الأطراف اللبنانية التي يعتمد فيها حتى الساعة “ديبلوماسية الصمت”، لم تهداً الأسئلة حول هل ان الجولة الثالثة من مهمته هي “وداعيّة” قبل انتقاله إلى مهمته الجديدة في المملكة العربية السعودية؟ وهل ما قيل عن تأييده لمبادرة الرئيس نبيه بري حول حوار الأيام السبعة تمهيداً لجلسات انتخاب رئاسية مفتوحة هو نعي للدور الفرنسي وتسليم لـ “الراية” لفريق الممانعة وشروطه أم أنه يَعتبر مقترح شريك “حزب الله” في الثنائية الشيعية مكمّلاً لأصل طرحه الحواري؟ وهل رسالة الحضّ على “الحوار ثم الحوار ثم الحوار” هي باسم باريس لوحدها أم “مجموعة الخمسة” حول لبنان مجتمعة؟ وهل المقصود من “الطاولة الرئاسية” إعطاء الحزب في الشكل مقابل سلّة ضمانات تُمنح لغالبية المعارضة بخواتيم توصل فعلاً لطي صفحة الشغور “لمرة واحدة وأخيرة” وعلى قاعدة رئيس تسوية ومَن هو؟
وإذ لن يكون ممكناً إكمال “بازل” ما يقوم به لودريان قبل أن تنتهي زياراته، رغم الاقتناع بأن جولته لن تحمل خرقاً وشيكاً في الأزمة الرئاسية، فإن محطاته يوم أمس وما خرج بعدها من مواقف لبعض مَن التقاهم أعطت إشارة واضحة إلى أنه يزور لبنان كـ “داعية حوار” وأنه يعتبر مبادرة بري خطاً موازياً، وأنه يستطلع ممن يجتمع بهم مواقفهم لمحاولة بلْورة طرْحٍ لا يُعلم هل سيكون على طريقة “اللهم أشهد” قبل فتْح الباب أمام دور قطري أكثر فاعلية أم يمهّد فعلاً لمسعى جدّي لإنهاء الشغور وفق آلياتٍ لا تحتمل أي تأويل.
وأعطى موقفٌ أطلقه رئيس حزب “الكتائب اللبنانية” النائب سامي الجميل بعد استقباله لودريان عصر أمس، مؤشراً واضحاً إلى كيفية مقاربة المعارضة مهمته، وكان بارزاً فيه توجُّهه إلى “الدول الصديقة” بأن “حزب الله مستمر بمنطق الاستقواء والفرض والتهديد والانقلاب على المؤسسات والبلد والديموقراطية ولهذا السبب نناشد هذه الدول بأن تُدرِك هذا الواقع وتساعد لبنان على تحرير نفسه وألا نضع الجلاد والضحية في المرتبة نفسها”، جازماً “لن نقبل بأن يكون ثمن انتخاب رئيس الاستسلام للحزب الذي يستخدم منطق الفرض والتهديد والانقلاب على المؤسسات والديموقراطية”.
وبعدما كانت غالبية المعارضة رفضت مقترح بري الحواري وقبله طرح لودريان للقاء موسع توطئة لجلسات مفتوحة مؤكدة وجوب التزام الدستور وإجراء الانتخابات في البرلمان والدعوة الى جلسة انتخابٍ بدورات متتالية حتى إنجاز الاستحقاق، وجّه الجميّل إشارة إلى “ان المعارضة التي كانت قامت بأول خطوة حوارية بترشيح جهاد أزعور (بعد انسحاب مرشحها ميشال معوض) وكان الردّ عليها بالتخوين وتعطيل الجلسات ووقف الدعوة إليها منذ 3 أشهر ومحاولة تكريس منطلقات جديدة للانتخاب في انعكاسٍ لأخذ المؤسسات والنظام الديموقراطي رهينة السلاح”، مؤكداً “إذا بدّنا نحكي رئاسة، فعلى الفريق الآخَر أن يلاقينا في منتصف الطريق وأي حوار إذا لم تكن هناك طمأنة فيه وضمانات للفريق الذي هو الضحية فهذا سيعني تكريس انتصار الجلاد”.
وتمنى “ان يأخذ لودريان ملاحظاتنا في الاعتبار عند صوغه المبادرة التي سيأخذها وكيف سيترجمها عملياً”، معتبراً أن اي مبادرة كي توصل إلى حلّ “ينبغي أن تكون متوازنة وتقدّم الضمانات والتطمينات للمعارضة”.
وفي موازاة ذلك، برز موقفان بالغا الدلالات:
– الأول تبلور بعد لقاء لودريان مع رئيس كتلة نواب “حزب الله” محمد رعد (في الضاحية الجنوبية) حيث أفاد الحزب أن الحديث تطرق إلى “المبادرة الفرنسية الساعية إلى إطلاق الحوار بين اللبنانيين حول الموضوع الرئاسي، واعتبر لودريان أن طرح الرئيس بري للحوار يصب في السياق نفسه، ويكمل المساعي الفرنسية في هذا الصدد”.
وإذ شدد رعد على “أهمية الحوار والتواصل بين اللبنانيين باعتباره السبيل الوحيد المتاح للخروج من الوضع الحالي في الموضوع الرئاسي”، أشار البيان الى أنه “جرت مناقشة عامة للآليات والخطوات المرتقبة على هذا الصعيد”.
* والثاني أطلقه الزعيم الدرزي وليد جنبلاط عقب استقباله لودريان إذ أعلن تأييد حوار بري وحوار الموفد الفرنسي، مؤكداً رداً على سؤال حول وجهة نظر حزب “القوات اللبنانية” الذي يرفض الحوار في ظلّ هيمنة السلاح “دائماً لدى القوات وجهة نظر مختلفة بعض الشيء عن وجهة نظرنا، ونحن نفضّل وجهة نظر الرئيس برّي ولودريان والدول الراعية”.
وفيما برز أيضاً لقاء لودريان مساء أمس مع رئيس “القوات” سمير جعجع، فإن الأنظار تنشدّ اليوم إلى لقاء مرتقب في دارة السفير السعودي وليد بخاري مع النواب السنّة الذين يفترض أن يجمعهم بالموفد الفرنسي، وسط تقارير تحدثت مساء عن أن لودريان أبلغ إلى النواب التغييريين الذين التقاهم “أنّ الرئيس المقبل لن يكون من الأسماء التي طرحها الأفرقاء أي لا سليمان فرنجية ولا أزعور” وأنه تحدث عن “ضمانات أن تكون جلسة انتخاب الرئيس واحدة ومفتوحة وألا يُطيّر النصاب في الدورة الثانية”.
عين الحلوة على… غليانه
في موازاة ذلك، بقي مخيم عين الحلوة على غليانه، مع تجدُّد سلسلة الخروق لوقف إطلاق النار والتي كانت تركزت قبل الظهر على حي حطين حيث أدى سقوط قذيفة على أحد منازل الحي إلى اشتعال النيران فيه، كما سُمع بعد الظهر دوي قذيفتين تبعهما إطلاق نار وما لبث الأمر أن تطور إلى تجدُّد الاشتباكات بعد الظهر بين “فتح” ومجموعات إسلامية متشددة (جند الشام والشباب المسلم) على محور حي حطين جبل الحليب حيث استُخدمت فيها القذائف الصاروخية والأسلحة الرشاشة.
وأدت المواجهات عصراً على هذا المحور الى إصابة مسؤول حركة “الجهاد الإسلامي” معين عباس وجرح آخر كما سُجّل انفجار قذيفة في الهواء فوق بلدة الغازية جنوب صيدا واختراق رصاص القنص مؤسسة تجارية عند كورنيش المدينة البحري.
وبدت هذه التطورات في سباق مع اتصالات فلسطينية – فلسطينية (بين “فتح” و”حماس”) ولقاءات تُعقد مع السلطات اللبنانية، وأبرزها ضمّ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي مع عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عزام الأحمد يرافقه السفير الفلسطيني أشرف دبور، أمين سر “فتح” فتحي أبو العردات، فيما حضر عن الجانب اللبناني قائد الجيش العماد جوزف عون، المدير العام للأمن العام بالإنابة اللواء الياس البيسري ومدير المخابرات في الجيش العميد طوني قهوجي ورئيس لجنة الحوار اللبناني- الفلسطيني باسل الحسن.
ووجّه الأحمد بعد اللقاء أصابع الاتهام إلى “جهات أجنبية” بأنها تدعم “العناصر الإرهابية الخارجة على القانون”، معلناً “بالأمس جرى اتصال من استخبارات دولة أجنبية في داخل لبنان مع هؤلاء حول الوضع، للتحريض وتقديم اغراءات، وإسرائيل ليست بعيدة عما يدور، وحتى الوضع الداخلي اللبناني والقوى المستفيدة من هذا الفراغ ومن الأزمة السياسية والاقتصادية أيضاً لا تريد الخير للبنان بل الفوضى”.
وإذ ذكّر بما سبق أن تم الاتفاق عليه قبل شهر حول وجوب تسليم مَن اغتالوا القيادي الفتحاوي البارز أبو أشرف العرموشي في الجولة الأولى من المواجهات أواخر يوليو، قال متناولاً الأحداث التي انفجرت قبل أسبوع “العناصر الإرهابية الخارجة عن القانون بقيت مصرة على خرق وقف إطلاق النار (…) بالإضافة إلى قصف مواقع وثكن الجيش اللبناني، وكأن هناك مَن يعطيهم تعليمات لتفجير الأوضاع الأمنية في المنطقة وليس في المخيم فقط بل في الجوار وفي صيدا وخارج حدود المخيمات، ما يدل على ان هناك مؤامرة أكبر مما يتصوّر البعض”.
أضاف: “جرت مفاوضات تولاها رئيس لجنة الحوار اللبناني- الفلسطيني الدكتور باسل الحسن، وكاد أن يصل إلى اتفاق، ولكن تبيّن بأنها كانت مناورات منهم، وحتى من القوى التي كانت تتّصل بهم لتبلغ الطلبات، باعتبار أن السلطة اللبنانية والدولة اللبنانية من مسؤولياتها فرض القانون وسيادة القانون، والجميع يجب أن يكون تحت هذا القانون، وأولهم نحن كفلسطينيين”.
وشدد على أنه “تقرر وقف إطلاق النار في عين الحلوة وتسليم المطلوبين باغتيال العميد أبو شرف العرموشي”، مؤكداً أن “الجانب اللبناني سيجري اتصالات لوصول القرار هذا لجميع الأطراف”. كما لفت إلى أن “كل الخيارات مطروحة أمامنا واتفقنا عليها، ونحن نفضل خيار العقل، وإذا كان هناك أناس مضلَّلون من جهات أجنبية أو غير أجنبية مستفيدة من هذه الحالة، فهذا ذنبهم وليس خيار الدولة اللبنانية ودولة فلسطين”، مشدداً على “أننا لا نقدم على عمل منفرد ولا يقدم الاخوة في الحكومة اللبنانية ومؤسسات الدولة اللبنانية على عمل منفرد أيضاً. وهذه مناسبة لنؤكد لأبناء صيدا وفاعلياتها وقواها وأحزابها وأيضا للجوار، بأن هناك من يريد توسيع الفوضى والصدام”.
وعن الاجتماع مع حركة “حماس”، أول من أمس، قال: “التقينا لساعات وكانت هناك تباينات بيننا طوال هذه الفترة على بعض القضايا التفصيلية في ما يتعلق بأزمة عين الحلوة واتفقنا وأصدرنا بياناً وتضمّن ما اتفقنا عليه وطرحناه مع رئيس الحكومة والمسؤولين الآخَرين في مقدمهم قائد الجيش وقادة الأجهزة الأمنية”.
في موازاة ذلك، أعلنت “حماس” أن “وفداً منها برئاسة عضو المكتب السياسي للحركة موسى أبومرزوق، يرافقه رئيس دائرة العلاقات الوطنية في الخارج علي بركة، زار اللواء البيسري، مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبداللطيف دريان، والأمين العام للجماعة الإسلامية في لبنان الشيخ محمد الطقوش”.
وأثنى الوفد على “دور الجهات اللبنانية والشخصيات الرسمية والحزبية والفصائل الفلسطينية في تحقيق الأمن والاستقرار في المخيمات الفلسطينية في لبنان”، مؤكداً “أهمية استمرار كل الجهود من كل القوى لتثبيت وقف إطلاق النار في مخيم عين الحلوة”، ومشدداً على أن “أمن لبنان يهم حركة حماس وكل مكونات الشعب الفلسطيني، وهو جزء أساسي من أمننا”.
وأطلع الوفد “الجهات والشخصيات الرسمية على تفاصيل اللقاء مع الإخوة في حركة فتح، مساء أمس، في السفارة الفلسطينية في بيروت”، مؤكداً “ضرورة وقف إطلاق النار فوراً وسحب المظاهر العسكرية في مخيم عين الحلوة، وعودة المهجرين وتسليم المطلوبين وتحريم الاقتتال الفلسطيني وسحب المسلحين من المدارس وتهدئة الأجواء”.