شكّل «الترسيمُ السياسي» المبكّر من رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، لمَعالم «اليوم التالي» لبنانياً، مؤشراً إلى أن ما ينتظر لبنان بعد أن تضع حرب الجنوب أوزارها، مفتوح على مواجهة داخلية مدججة بكل العناوين الخلافية «المزمنة» والتي زادها توهّجاً تفرّد «حزب الله» في إغراق البلاد في «طوفان الأقصى».
ورغم أن حربَ غزة لم تنتهِ بعد وأن أفقَ جبهة الجنوب غير واضح حتى الساعة لجهة هل سيكون ممكناً بالدبلوماسية توفير «هبوط ناعم» لحرب المشاغلة أم أن التهدئة ستسْبقها «عاصفة قتالية» تتطاير تشظياتها في أكثر من اتجاه، فإنّ «الإنزال الاستباقي» السياسي الذي نفّذه جعجع، في خطابه الأهمّ منذ أعوام الذي ألقاه خلال إحياء «القوات» ذكرى «شهداء المقاومة اللبنانية»، جاء بمثابة «جرس إنذار» بأن الواقع اللبناني لا يقف فقط فوق صفيح ساخن عسكرياً بل أيضاً على أرضٍ مهتزّة في ما خص مرتكزاتِ البنيان الذي تقوم عليه التركيبة الداخلية التي تتنازعها الأزماتُ على أنواعها، السياسية والمالية، وصولاً إلى صراعٍ حول بدهيات مقوّمات أي دولة ومفهوم سيادتها على أراضيها.
وبحسب أوساط سياسية على خصومة مع «حزب الله»، فقد جاءتْ مواقفُ جعجع التي كرّستْ «رَبْطَ النزاع» بالعناوين السياسية مع مرحلة ما بعد الحرب على قاعدة «ان اليوم التالي يجب أن يكونَ يومَ الصراحةِ (…) ويجبُ إعادةُ النظرِ في كلِّ شيءٍ في لبنانَ ما عدا حدوده ووحدته» مع التشديد على عدم جواز استمرار وجود سلاح خارج الشرعية وجرّ البلاد إلى حروبٍ عبثية، لتؤكد المؤكدَ لجهة مسألتين:
– الأولى أن الأزمةَ الرئاسيةَ المستعصيةَ تدخل في «مكوّناتها» كل هذه العناصر الإشكالية ما يعني أن محاولاتِ الخارج استيلاد حلّ قبل انقشاع الرؤية حيال حرب غزة وأخواتها محكومةٌ بعدم النجاح، ومن دون استبعاد أن تستجرّ هذه الأزمة المفتوحة منذ نهاية اكتوبر 2022 مزيداً من التعقيدات بحيث تحقق «الرقم» الذي سجّله الفراغ الرئاسي 2014 – 2016 (نحو 30 شهراً).
– والثانية أن لبنان مازال أمامه طريق طويل شائك، إذا أَفْلَتَ من حربٍ واسعةٍ، حيث إن ما يَشهده منذ 8 أكتوبر 2023 عمّقَ الندوبَ السياسية بين المكوّنات والأطراف المتصارعة منذ نحو عقدين وسيجعل لحظةَ «صَمْت المدافع» بمثابة إشارةِ انطلاقِ مواجهةٍ سياسية ارتكازاً على «لاءات» أفرقاء وازنين في الداخل لاستمرار الوضع على ما هو من «دفع فديات» لمحور الممانعة بين فترة وأخرى لقاء فكّ أسر استحقاقٍ أو وقف اقتياد البلاد إلى صراعات إقليمية أو حروب «من أجل الآخرين».
ورغم حرص جعجع، على مخاطبة «حزب الله» بلغة «أنَّ حُزنَ وألَمَ عائلاتِ شُهدائِهِمْ وَجَرحاهُمْ لا يَعني شُعورَ فرحٍ وغِبطةٍ لدينا أو لدى لبنانيينَ آخرين»، إلا أنّه بحديثه بلا «قفازات» حول «سلاحَ حزبِ الله الذي يَمَسُّ جوهرَ التعايش، وجوهرَ مفهوم الدولة»، وتوجيهه رسالة للحزب «بأن سلاحك لا يحمي الطائفة الشيعية، فالضماناتُ من مسؤوليَّة الدولة، وطمْأَنَة بعضِنا البعضْ من مسؤوليتنا جميعاً وآنَ الأوان أن نخرج معاً من الماضي لنبنيَ المستقبل بِناء يجسد طموحات كل مكوّن منا بعيداً عن منطقِ الهواجس الظرفيّة أو الوُجودية»، بدا وكأنّه يحاول إيجاد منطقةِ «لا اشتباك» علّها تخفّف من هواجس الحزب في الملف الرئاسي وتحديداً في إصراره على مرشّحه الوحيد سليمان فرنجية أو لا أحد.
وقد بلور جعجع أكثر هذا البُعد بإشارته إلى «ان ملاقاةَ بعضِنا البعضَ في الوطنِ من شأنِها تبديدُ كلِّ المخاوِفِ وإِسقاطُ كلِّ الرِهاناتِ الخارجيةِ من أيِّ جهةٍ أتَتْ. وأوَّلَ خُطوةٍ غايَةً في الإلحاحِ في الوقتِ الحاضرِ هي انتخابُ رئيسٍ للجمهورية»، رغم أن رفْعَه شعار «ان الطريق إلى قصر بعبدا لا تمرّ في حارة حريك، ودخول قصر بعبدا لا يكون من بوابة عين التينة (حيث مقر الرئيس نبيه بري) ووفْق شروطها وحوارها المفتعل بل فقطْ في ساحة النجمة ومنْ خلال صندوق الاقتراع»، اعتُبر مؤشراً إلى أن الصراع حول آليات الانتخاب واستطراداً حول هوية الرئيس مازال على أشدّه ومفتوحا ربما على فصول أعتى.
وفي إشارةٍ بالغة الدلالات بإزاء ما تتوجّس منه المعارضة، استوقف الأوساط نفسها كلام جعجع عن 3 نقاط:
أولها أن «على حزب الله ألاّ يُخطئ في حساباته لما بعد الحرب أياً تكن نهايتها ونتائجها، للارتداد إلى الداخل ومحاولة فرض معادلات معينة وتحصيل مكاسب والتعويض عن خسائره أو ترجمة ما يدّعيه ويتوهَّمه انتصاراً».
والثانية أنه «إذا كانَ البعض يعتقد أنّه في نهاية الحرب فإن المجموعة الدوليّة كما العربيةَ ستفاوض محور الممانعة بخصوص مستقبل لبنان لأنه الفريق المدجج بالسلاح، فهو مخطئ، لأنّ أحداً لن يقبَل بأن يعود الوضع في لبنان الى ما كانَ عليه قبْل الحرب».
أما النقطة الثالثة فتشديده على «أن اليومَ التالي في لبنانَ هو لنا، وأوّلُ شيء يجب فعله فيه هو تطبيق الدستور لَقِيام دولة فعلية. فلا دولة إذا لم تملك قرار الحرب والسلم (…) وعلينا جميعاً كلبنانيين البحث عن تركيبة أخرى لدولتِنا تخلصنا من تعقيدات الطائفية السياسية، وتُتيحُ لنا أن نعيشَ في شراكة حقيقية مع بعضِنا البعض (…) فلننتخب رئيساً وتبعاً للدستور، وبعدها نحن جاهزون، لا بل ندعو، لطاولة حوار وطنيّة فعلية في قصر بعبدا حيث نطرح كلّ شؤوننا وشجوننا الوطنيّة، يتركز النقاش فيها على عنوان أوحد: أيُّ لبنانَ نريد».
ولم يَحجب تلبُّد الغيوم الداكنة أكثر في سماء المَشهد السياسي اللبناني، صخبَ مواجهات الجنوب التي استعادت احتدامها نسبياً، حيث أغارت مسيّرة إسرائيلية على سيارة في بلدة الناقورة، ما أدى إلى سقوط شخصين، هما حسين مهدي مهدي وعلي يوسف مهدي، وسط معلومات عن أن السيارة المستهدفة تابعة لشركة تقديم خدمات متعاقدة مع «اليونيفيل».
وفيما تمكّن سائقٌ من النجاة بعد تعرّض شاحنته لرشقات رشاشة إسرائيلية، أثناء مروره على الطريق الحدودية بين كفركلا والعديسة، في موازاة غارات وقصف لعدد من البلدات الحدودية، أعلن «حزب الله» أنه «رداً على الاعتداء على بلدة الناقورة» قصف مجاهدونا مستعمرات عين يعقوب وجعتون ويحيعام بصليات من صواريخ «الكاتيوشا» قبل أن يَستهدف مواقع أخرى في شمال إسرائيل.