عوامل كثيرة اجتمعت في لبنان هذه الأيام وقادت إلى انتخاب جوزاف عون رئيساً للجمهورية، ورئيس وزراء جديد ومختلف هو القاضي نواف سلام، ولعل أهمها الضربات التي تلقاها “حزب الله” خلال حربه مع إسرائيل، تلتها هزيمته في سوريا وسقوط النظام الذي أرسل مقاتليه لمساندته ضد شعبه.
جرى انتخاب الرئيس اللبناني ورئيس الوزراء بتوافق وإجماع نيابي وتأييد شعبي ومباركة دولية، ليكون لبنان على عتبة مرحلة جديدة لعلها تؤسس إلى لبنان مدني، لأن بقاء لبنان المقسم طائفياً بصورة مؤسسية يحدد محاصصة طائفية مُمأسسة للمناصب العليا في الدولة والمقاعد النيابية، مما يعني بقاء جذور الشقاق والحسابات على أسس الطائفة والدين، وليس على أساس الوطنية والولاء للوطن.
ومن يتابع الوضع اللبناني لا يرى أن حلم تحقيق الدولة المدنية سهل المنال خلال المدى المنظور، وعلى رغم هذا فإن لبنان اليوم يلج دورة جديدة شعارها السلام والعدل والإعانة على إعادة البناء واسترجاع السلم الأهلي وتحسين معيشة الناس وظروفهم الحياتية، وهناك نفحة من التفاؤل بأن البلد يمكن أن يلتقط أنفاسه بعد عقود من الفساد المالي والسياسي والتفرد بقرار الدولة من قبل “حزب الله” ومن يواليه من قوى نفعية وغارقة في الفساد.
مرت عقود من الهيمنة والبلطجة الحزبية وفرض مبدأ “الثلث المعطل” الذي ابتدعه “حزب الله” لتعطيل سير الأمور داخل البلاد إذا لم تتوافق مع مصالحه ومصالح راعيه ومؤسّسه وولّيه الفقيه في طهران، عقود جر بها الحزب البلاد إلى حروب مدمرة مع إسرائيل خلال أعوام 2006 و2023 و2024 وأدت إلى آلاف القتلى والجرحى وملايين المشردين والمهجّرين، ودمار وخراب كبير للبنى التحتية في البلاد.
وخلال العقود التي مضت اغتال “حزب الله” رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري وقيادات حزبية وصحافية وسياسية، وتسبب في كارثة مرفأ بيروت واجتاح بيروت الغربية “بزعرنة” طائفية عام 2008، وتحكم بكل مفاصل الدولة خدمة لمصالح دولة أخرى وهي إيران، وتماهياً مع مصلحة نظام بشع مستبد وهو نظام الأسد الذي أرسل الحزب آلافاً من شبابه المقاتلين لذبح الشعب السوري، دعماً لبقاء نظام بشار الأسد الهارب.
اللبنانيون قبل غيرهم معنيون اليوم بتعزيز التوافق حول الرئاسة ورئاسة الوزراء، لأن الرئيس الجديد معروف بسجله العسكري المهني، ورئيس الوزراء معروف بعدالته القضائية، الرجلان بعيدان من ملوثات الطبقات السياسية التقليدية في لبنان، وعلى رغم أن عمّ رئيس الوزراء صائب سلام وابن عمّه تمام سلام قد رأسا الحكومة قبله، لكنه اختط لنفسه طريقاً أكاديمياً قضائياً مميزاً، فدرس في أعرق الجامعات العالمية من الـ “سوربون” في باريس إلى “هارفارد” في الولايات المتحدة الأمريكية، ومارس القضاء إلى أن أصبح رئيساً لمحكمة العدل الدولية في فبراير (شباط) الماضي.
ما ينتظره اللبنانيون من القاضي سلام هو العدل والمساواة واسترجاع أموالهم التي نهبها اللصوص من المسئولين المحميين من “حزب الله”، وينتظرون من الجندي جوزاف عون أن يحمي حدود البلاد ويعيد السلاح بيد الدولة، فلا يمكن استمرار السلاح بيد “حزب الله” أو غيره إن كانوا يريدون دولة لبنانية واحدة لا دولتين، تقرر إحداهما الحرب والسلام والنهب والسلب والفساد والتبعية لطهران.
أصل اسم لبنان بالسامية القديمة “اللبن والبياض”، وقيل إنه سمي كذلك لبياض جبله الذي تكسوه الثلوج طوال الشتاء، وأصل اسم عاصمته بيروت هو بيت الماء أو بيت البئر، فعسى أن يعني اسم الرئيس عون أنه عون “للمعتّرين” من الشعب اللبناني، وأن يكون القاضي سلام عادلاً في تصريف شؤون الدولة اللبنانية كي تعيش باستقرار وسلام وعدل، وأن يحققا للشعب اللبناني اللبن والماء والكهرباء والتوظيف والخير والعون والسلام.