لم يحضر وزراء خارجية كل الدول كما جرت العادة قبل ذلك. جرى التمثيل من خلال السفراء والمندوبين، وفوق ذلك لم يستغرق الاجتماع أكثر من 30 دقيقة. يكشف الأمر عن قلّة إيمان بعمل اللجنة من جهة وشعور بعدم الحاجة إلى عجالة تدخل في شأن لبنان وأزماته من جهة ثانية. يتراجع “الملف” لدى أروقة القرار الدولي على الرغم من ظواهر التفاقم الني طالت في الأسابيع الأخيرة ملفات الأمن واللاجئين التي لا تهدد لبنان فقط، بل باتت تثير قلقا أوروبيا حقيقيا من تسونامي لجوء عبرت عنه قبرص بشكل واضح في 27 سبتمبر الجاري.
وإذا ما يُسجل تباين في الرؤى بين فرنسا والولايات المتحدة في ملفات دولية عديدة كان أخرها تناقض أجندات البلدين في النيجر وأفريقيا عامة، فإن اجتماع نيويورك أظهر أيضا بداية تعارض في خطط باريس وواشنطن بشأن مقاربة الأزمة اللبنانية.
بدا أن الولايات المتحدة تلوّح بسحب الرعاية عن “المبادرة” الفرنسية والتحضير لإنهائها. نُقل عن مساعدة وزير الخارجية الأميركي باربارا ليف أن الحلّ يحتاج إلى انتخاب رئيس للجمهورية وليس الاستغراق في حوار تدافع عنه باريس وكان دعا إليه رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري.
وبغضّ النظر عن المداولات المتشنّجة التي أنهت اجتماع نيويورك بعد نصف ساعة من دون خروج بيان مشترك، فإن مبعوثا قطريا ما زال يجري محادثات داخل لبنان تسوّق للخيار الثالث ويطرح أسماء بديلة عن مرشح حزب الله سليمان فرنجية ومرشح المعارضة جهاد أزعور. ورغم أن مروّحة الأسماء قد اتّسعت، غير أن اسم قائد الجيش جوزيف عون ما زال الأبرز على الرغم من مواقف الرجل الأخيرة الزاهدة بالمنصب والسعيّ إليه.
وبغضّ النظر عن ترنّح المبادرة الفرنسية التي لطالما اعتبُرت مسايرة لأجندة طهران وحزبها في لبنان، غير أن فرنسا أعلنت عن زيارة جديدة سيقوم بها مبعوثها الرئاسي إلى لبنان جان إيف لودريان من دون ظهور مستجدّ لدى عواصم القرار يبرر استمرار الرجل في طرقه أبواب بيروت. ومما تسرّب من اجتماع نيويورك أن المندوبة الأميركية اعتبرت أن هذه الزيارة “يجب أن تكون الأخيرة”.
يُفهم من الموقف الأميركي تبرّم من دور فرنسي فشل منذ زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت بعد أيام من انفجار مرفئها في 4 اغسطس 2020. بقيت علاقة واشنطن بمبادرة ماكرون ضبابية لا تحظى بالرعاية الأميركية العلنية الواضحة ولم يُسجل أنها تعرّضت لفيتو أو عرقلة مباشرة من قبل واشنطن. لكن تفصيل نيويورك يوضح أن واشنطن أرادت إبلاغ باريس بشكل قاطع ضرورة الانتقال إلى طور آخر في أساليب التعامل مع لبنان.
لا مفاجأة كبرى في الأمر على الرغم من أن هذا “الاحتكاك” بدا مفاجئا. أظهرت الولايات المتحدة والسعودية في الأشهر الأخيرة موقفا واحداً داخل اللجنة الخماسية في شأن عدم القبول بالأمر الواقع الذي يريد حزب الله إعادة فرضه في شأن الاستحقاق الرئاسي، من دون أن يمسّ الموقف المشترك (خصوصا السعودي) دور فرنسا ومبادرتها في لبنان.
واللافت أن موقف البلدين ينهل في الوقت عينه من شروط وظروف التفاهمات السعودية الإيرانية في ملفات عديدة وخصوصا مسألة التطبيع الدبلوماسي الكامل بين البلدين. وينهل أيضا من ظروف المفاوضات غير المباشرة التي جرت بين طهران وواشنطن وأفضت إلى صفقة تبادل السجناء وما يمكن أن تؤديه من تداعيات على المفاوضات بشأن برنامج إيران النووي.
واللافت أيضا أن موقف فرنسا قام أساسا على مجاراة مصالح إيران ومواصلة الحوار مع حزب الله خدمة لمصالح فرنسية لاحقة مع طهران. بالمقابل فإن مواقف واشنطن والرياض استندت على معطيات تواصلهما مع طهران ودرايتهما بالخطوط الحمر التي وجب عدم تجاوزها.
وإذا ما زالت اللغة الإيرانية العلنية متشنّجة في الحديث عن الولايات المتحدة، غير أنها، وبسبب اتفاق بكين في 10 مارس الماضي، مالت باتجاه المرونة والودّ تجاه السعودية إلى درجة ما نقل عن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان أثناء زيارته في أوائل سبتمبر الجاري إلى لبنان بشأن إبلاغه حزب الله بضرورة “عدم استفزاز السعودية” في خياراته الرئاسية.
على أية حال فإن حيرة البوصلة في توجّهات دول اللجنة الخماسية قد تؤدي إلى انفراط عقد هذا المنبر الدبلوماسي الذي بدأ ثلاثيا قبل انضمام قطر ومصر إليه، ما قد يبرر خروج آليات جديدة وأساليب قد تكون صادمة تلمّح إلى استخدام سلاح العقوبات الدولية ضد المعرقلين لانتخاب رئيس للجمهورية في لبنان.
في هذا الوقت يصبح الجدل اللبناني عقيما بشأن من يتحمّل مسؤولية استمرار الأزمة في البلد. يحمّل بري التيارات والأحزاب المسيحية الأمر خصوصا لجهة موقفها من الحوار، فيما تحمّل المعارضة، على اختلاف مشاربها، حزب الله وحلفاءه مسؤولية ما أصاب البلد من انهيار فيما ما زال الامتناع عن انتخاب رئيس للجمهورية يمنع أيضا وقف انزلاقه إلى درك مجهول.
قد يفقد لودريان نجاعة دوره في لبنان بضغط من واشنطن التي تستعد منتصف الشهر المقبل لإرسال المبعوث الأميركي لشؤون أمن الطاقة العالمي آموس هوكشتاين مجددا إلى بيروت لاستكمال وساطته بشأن ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل. يمثّل الرجلان مسارين يبدو أنهما يفترقان وإن التقيا في حقبة الإعداد لترسيم الحدود البحرية قبل ذلك.