وفي استعادة للعلاقة بين «أمل» و«القوات» فهي شهدت بالإجمال علاقة احترام متبادل على الرغم من عدم تصويت نواب القوات اللبنانية منذ فوزهم في أولى الدورات الانتخابية في أيار/مايو 2005 للرئيس بري رئيساً للمجلس. والبعض يتذكّر الزيارة اللافتة التي قامت بها النائبة ستريدا جعجع إلى عين التينة قبل الإفراج عن زوجها من أجل تحضير الأجواء لجلسة إقرار العفو العام بعد التحوّل الكبير الذي شهدته البلاد إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري والذي أتاح لجعجع الخروج من سجنه السياسي وتصويت أغلبية الكتل النيابية بمن فيها كتلة «التنمية والتحرير» على قانون العفو العام في 18 تموز/يوليو 2005 باستثناء نواب حزب الله وحزب البعث والحزب السوري القومي الاجتماعي. وقد سأل الرئيس بري حينها ستريدا جعجع عن موقف آل فرنجية وكرامي وما إذا كان لديهما اعتراض ووعد بالمساعدة بالتعاون مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط لخروج رئيس القوات من السجن، معرباً عن اعتقاده أنه «تم تركيب شيء لجعجع في قضية كنيسة سيدة النجاة». فيما اعتبرت ستريدا جعجع بعد الجلسة النيابية «أن النواب عبّروا بإسم الشعب اللبناني عن طي صفحة الحرب نهائياً والعبور نحو المصالحة الوطنية الحقيقية».
بناء على هذا الموقف، بُنيت علاقة طيبة بين رئيس المجلس والقوات اللبنانية ولم يشُب هذه العلاقة أي شيء غير عادي، وانتهجت القوات سياسة إبداء الاحترام للرئيس بري والتعاطي معه بموضوعية في الملفات التشريعية رغم بعض التباينات السياسية بدءاً من نائب رئيسها النائب جورج عدوان الذي بات على دورتين رئيساً للجنة الإدارة والعدل بمباركة ضمنية من رئيس المجلس إلى أمين سر هيئة مكتب المجلس آنذاك النائب أنطوان زهرا الذي عهد إليه الرئيس بري المتابعة والإشراف على ورشة إعادة ترميم المجلس بحلّته الجديدة. وحتى في عز الجدل والخلاف الذي دار حول إنشاء المحكمة الخاصة باغتيال الحريري وانسحاب الوزراء الشيعة من الحكومة، سرعان ما كان يعود التنسيق والنقاش بين بري والقوات سواء تحت قبة البرلمان أو حتى في بعض جلسات مجلس الوزراء حول آلية التعيينات في وظائف الدولة أو سبل مكافحة الفساد والهدر وخصوصاً في حكومات عهد الرئيس ميشال عون، وهو ما كان يثير حفيظة التيار الوطني الحر ورئيسه جبران باسيل. وكان جعجع يحرص في أغلب تصريحاته الإعلامية على وصف الرئيس بري بـ «صديقنا العزيز» وكانت الاتصالات متبادلة بين عين التينة ومعراب في الأعياد المسيحية والإسلامية.
قبل ذلك، وفي فترة تفاهم معراب ودعم القوات ترشيح الجنرال ميشال عون للرئاسة حصل تباعد في الخيار الرئاسي بين معراب وعين التينة التي كانت تزكّي خيار رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية، وتخلل هذا التباعد انتقاد ملطّف من الرئيس بري لجعجع الذي كما قال «يجلس فوق ويتسلّى بنا» ليرد عليه رئيس القوات «صديقي الرئيس نبيه بري، معاذ الله أن أتسلى بكم. جل ما في الأمر أنني أتسلى معكم.»
لكن هذا التباعد في الخيار الرئاسي لم يُفسد في الود قضية، ففي فترة «كورونا» التي هددت العديد من المناطق اللبنانية وبينها بشري، حرصت «حركة أمل» على نشر شريط مصور داعم للبلدة تحت عنوان «بشري عاصمة الأرز» وأرفقته بعبارات وجدانية عن تاريخ بشري مسقط جبران خليل جبران وملجأ الموارنة المضطهدين، ومؤكدة أن «بشري ستتجاوز أزمتها وستبقى حارسة وادي القديسين وستخرج من العزلة بشفاعة السيدة مريم العذراء».
ولكن رياح التناغم بين بري والقوات بدأت تنقلب بعد تفجير مرفأ بيروت وما رافق جلسات التحقيق وصولاً إلى حادثة الطيونة التي شهدت مواجهة مسلحة وتوتراً على الأرض واتهامات مباشرة من الثنائي الشيعي للقوات بالقنص على المتظاهرين، وهو ما نفاه جعجع متحدثاً «عن خروج مجموعات مسلحة من الضاحية عن مسار التظاهرة إلى أحد أحياء عين الرمانة والبدء بتحطيم السيارات وهذا موثق في الفيديوهات».
بعد تلك الحادثة بدأت العلاقة تشهد برودة وما أسهم في تراكم البرودة أكثر هو الشغور الرئاسي ورفض القوات دعوة بري إلى الحوار واتهامه بإقفال المجلس النيابي وعدم الالتزام بالأصول الدستورية لانتخاب رئيس الجمهورية، إلى أن خرج بري في أول موقف علني ليرد على جعجع «قبلًا كان يقول عني الصديق العزيز. لا أنا صديقه ولا عزيزه». وهنا أيضاً اكتفى جعجع بتعليق مقتضب على كلام بري قائلاً «لن أستطيع النوم الليلة».
بعد ذلك، عاد بري وجعجع ليتلاقيا على موقف داعم للتمديد لقائد الجيش العماد جوزف عون، وكسر نواب القوات مقاطعتهم الجلسات التشريعية ونزلوا إلى ساحة النجمة للتصويت على اقتراح التمديد نظراً للأوضاع الأمنية المقلقة وتفادياً لأي فراغ على مستوى قيادة الجيش كمؤسسة ضامنة للأمن والاستقرار بمعزل عن موقف بعض الكتل من قائد الجيش كمرشح للرئاسة.
أما اليوم، فقد تراكمت القضايا الخلافية أكثر بعد فتح حزب الله منفرداً جبهة الجنوب والمواقف الاعتراضية من قبل القوات على مصادرة قرار الحرب والسلم وتوريط لبنان في الحرب ودعوة جعجع إلى إعادة النظر بالتركيبة اللبنانية، ثم الخلاف على التمديد للمجالس البلدية والاختيارية واشكالية استثناء الجنوب من هذه الانتخابات بسبب المواجهات العسكرية. وهنا لفتت النبرة العالية من الرئيس بري تجاه جعجع، معتبراً أن «الخطورة في كلام جعجع هو عن الفيدرالية وهذا يعني أننا لا نزال في حالات حتماً».
وبغض النظر عما إذا كان رفع شعار «حالات حتماً» اتهاماً في محله أم لا في ضوء اعتبار مطار حالات في مرحلة الثمانينات ضرورة للمناطق الحرة في ظل خطر الانتقال إلى مطار بيروت، فإن المشاكسة الحالية بين «أمل» والقوات لا تخدم البلد. فالقوات بحاجة إلى بري كمرجعية نيابية قادرة على تدوير الزوايا وابتكار الحلول للأزمات في المراحل الدقيقة، والرئيس بري بحاجة إلى طرف مسيحي وازن يتميّز بصدقيته وبوضوح مواقفه وثوابته ولا يمارس الألاعيب حتى لو لم يكن دائماً على وفاق سياسي معه.
يبقى أن المكوّنات اللبنانية وقياداتها عليها تفهم هواجس بكركي والمسيحيين الذين يشعرون بقلق متعاظم على الوجود والدور وبخوف من تغيير هوية لبنان ووجهه الحضاري في ظل الخطر الديموغرافي المتمثل بالنازحين السوريين وذلك في غياب رئيس للجمهورية ضامن للتوازن والشراكة والوحدة الوطنية. وهنا يبرز دور الرئيس بري القادر على طمأنة البطريركية المارونية والمسيحيين إلى المستقبل وإلى حضورهم المتوازن والفاعل في الدولة وعدم السماح بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء والتعامل مع المسيحيين كما حصل في زمن الوصاية السورية، لأن التجارب أثبتت أنه لا يمكن لفريق الغلبة على فريق لبناني آخر مهما طال الزمن.