ودفع أهالي الضحايا إلى الاعتقاد مجدداً بأن العدالة آتية لا محالة، ففي الـ 11 من سبتمبر (أيلول) الجاري دعا مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك إلى تحقيق دولي في انفجار مرفأ بيروت، وندد خلال جلسة افتتاح أعمال المجلس بغياب المساءلة في هذه القضية. وقال تورك، “بعد ثلاث سنوات من انفجار مرفأ بيروت الذي أوقع أكثر من 200 قتيل وتسبب بإصابة أكثر من 7 آلاف بينهم أكثر من 1000 طفل، لم تحصل أي مساءلة”، مضيفاً “أثيرت مخاوف عدة حيال تدخلات في التحقيق، لذلك قد يكون الوقت حان لتشكيل بعثة دولية لتقصي الحقائق للنظر في انتهاكات حقوق الإنسان المرتبطة بهذه المأساة”.
وعلى رغم تأكيد مصدر قضائي متابع للملف لـ “اندبندنت عربية” أن دعوة تورك هي مجرد توصية ولا قوة تنفيذية لها، أشار إلى أن الخطوة بحد ذاتها بالغة الأهمية، وكشف عن أن كلام مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ليس عابراً، وهو نتيجة قناعة باتت راسخة لدى الدبلوماسية الأوروبية بضرورة إنشاء لجنة تقصي حقائق دولية لاستحالة قيام السلطات القضائية المحلية بمهمتها، وكشف عن أن الضغط سيستمر للوصول إلى هذا الهدف.
وتأتي توصية تورك لتضاف إلى سلسلة خطوات خارجية عززت إمكان الاستمرار بملف تفجير المرفأ حتى النهاية، والتي كان آخرها قرار أصدرته محكمة هيوستن في ولاية تكساس الأميركية قضى ببدء التحقيق بتفجير مرفأ بيروت، بناء على شكوى قدمها عدد من المتضررين اللبنانيين – الأميركيين ضد شركة “سبكتروم” Spectrum للتنقيب عن النفط، التي كانت عملت في لبنان بطلب من وزارة الطاقة، وطلبت استئجار الباخرة “روسوس” لنقل معدات خاصة بها إلى الأردن.
وسبق ذلك صدور أول قرار في القضية من بريطانيا، إذ أصدرت محكمة العدل العليا البريطانية حكماً لمصلحة الضحايا الذين يمثلهم مكتب الادعاء في نقابة المحامين في بيروت وزير العمل اللبناني السابق كميل أبو سليمان وعدد من المحامين، ضد الشركة الإنجليزية “سافارو ليميتد” (SAVARO Ltd)، في الدعوى المدنية التي أُقيمت بحقها في الثاني من أغسطس 2021، بعدما تمكن المكتب من وقف عملية التصفية التي أطلقتها الشركة أوائل عام 2021 للتنصل من مسؤوليتها، كما كشفت مصادر قضائية عن دعوى جديدة ستقام في كندا ومسارها سيبدأ في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.
مواكبة نيابية لتوصية تورك
وبعد يومين على دعوة مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك إلى ضرورة التحرك من أجل تحقيق دولي، رفع 67 نائباً لبنانياً ينتمون إلى كتل حزبي “القوات اللبنانية” و”الكتائب” والنواب “المستقلين” و”التغييريين”، وأهالي ضحايا تفجير المرفأ إلى الأمم المتحدة، عريضة لإنشاء لجنة تقصي حقائق دولية تزامنت مع انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
وصرح عضو تكتل “الجمهورية القوية” (كتلة حزب القوات اللبنانية) النائب جورج عقيص المكلف بالملف لـ “اندبندنت عربية” عن أن “لجنة تقصي الحقائق الدولية لكشف ملابسات تفجير مرفأ بيروت هي مطلب أساس لحزب القوات اللبنانية منذ تاريخ وقوع الانفجار وحتى اليوم”، وذكر عقيص “أن أول طلب في هذا الشأن تقدم به حزب القوات اللبنانية للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش كان في الـ 17 من أغسطس 2020، أي بعد أقل من أسبوعين على التفجير”.
وتلا هذا الطلب سلسلة عرائض نيابية من أكثر من فريق سياسي ومن أهالي الضحايا وجمعيات، أُرسلت إلى مجلس حقوق الإنسان في سويسرا، وكان موقف مجلس حقوق الإنسان في قضية تفجير مرفأ بيروت قد تدرج من البيان المشترك الذي كانت أعدته أستراليا في الدورة الـ (52) للمجلس في مارس (آذار) الماضي، ووقعت عليه 38 دولة من أصل الدول الـ47 الأعضاء، وأعربت فيه عن قلقها إزاء تأخر لبنان في التحقيق في انفجار بيروت، ودعت السلطات اللبنانية إلى ضمان إجراء تحقيق سريع ومستقل وذي صدقية، وصولاً إلى تبني المفوض المسؤول لمجلس حقوق الإنسان مطلب تشكيل لجنة تقصي حقائق دولية.
عريضة تحمل 291 توقيعاً
ويمكن لثلاث مرجعيات أممية أن تضع مطلب تشكيل لجنة تقصي حقائق دولية على سكة التنفيذ، ولا حاجة في مجلس حقوق الإنسان إلى طلب يأتي من الحكومة اللبنانية، فالمجلس التابع للأمم المتحدة يملك ذلك الحق بمجرد أن تقدم أية دولة عضو فيه مسودة قرار تعرضه على التصويت خلال اجتماعات المجلس الدورية.
كما يستطيع رئيس المجلس أن يقدم قراراً مماثلاً في أية قضية يعتبر أنها مرتبطة بانتهاكات حقوق الإنسان ويطلب التصويت عليه، كما يتمتع الأمين العام للأمم المتحدة بصلاحيات تسمح له بتشكيل لجنة تقصي حقائق بقرار شخصي من دون العودة لأي من أعضاء مجلس الأمن.
وفي هذا السياق أكد عقيص أن الدورة المقبلة لمجلس حقوق الإنسان ستكون مفصلية في هذه القضية، ومعلوم أن المجلس يعقد في مقره في جنيف دورته المقبلة بين شهري سبتمبر الجاري وأكتوبر المقبل، وقد تستغرق الدورة ثلاثة أو أربعة أسابيع بحسب جدول أعمالها، وسط توقعات بعرض توصية فولكر تورك على التصويت خلال اجتماعات مجلس حقوق الإنسان المقبلة.
وعشية بدء أعمال الدورة العادية لمجلس حقوق الإنسان زار وفد نيابي مشترك من حزبي “القوات اللبنانية” و”الكتائب” وكتلة “تجدد”، المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان يوانا فرونتيسكا، وسلمها عريضة موجهة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش تؤكد وتثنّي على موقف مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان بضرورة تشكيل لجنة تقصي حقائق دولية في جريمة انفجار مرفأ بيروت، وتدعوه إلى الإسراع في تشكيل هذه اللجنة.
وحملت العريضة 291 توقيعاً من نواب وجمعيات إنسانية وحقوقية لبنانية ودولية وأهالي الضحايا والمتضررين، والعريضة نفسها سلمها وفد نيابي من “تكتل الجمهورية القوية” إلى سفير أستراليا لدى لبنان أندرو بارنز الذي كانت بلاده أول من تولى إثارة قضية تأخر لبنان في التحقيق بانفجار مرفأ بيروت، وأعدت في الدورة السابقة لمجلس حقوق الإنسان بياناً مشتركاً تبنته 38 دولة.
وناشد الوفد النيابي السفير الأسترالي “نقل مطلب الشعب اللبناني بالإسراع في تشكيل لجنة تقصي حقائق دولية إلى حكومته، ودعم لبنان وشعبه في سبيل تحقيق هذا المطلب، والكشف عن الحقيقة في تفجير مرفأ بيروت، والإفراج عن العدالة المعطّلة في لبنان”.
المسار الدولي يتكامل مع المحلي
وبحسب النائب جورج عقيص، وهو قاض سابق، فإن “لجنة تقصي الحقائق الدولية لا تحجب صلاحية التحقيق المحلي، ومهمتها تقصي الحقائق والأدلة وقائمة المتهمين وإعدادها في تقرير نهائي ترفعه إلى القضاء اللبناني والأمين العام للأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان المسؤول عن تعيينها، وبطبيعة الحال فإن أية لجنة تقصي حقائق دولية ستكون بحاجة إلى تعاون السلطات المحلية القضائية والأمنية معها، علماً أن مهمة اللجنة، إن شكلت، لن تكون صعبة كما حصل مع لجنة تقصي الحقائق في اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري التي بدأت تحقيقاتها من الصفر، في حين أن ملف تفجير المرفأ شبه منجز والتحقيقات باتت في نهاياتها والمحقق العدلي كان يستعد، قبل تعطيل عمله، لإصدار قراره الظني”.
ويؤكد عقيص أن “المسار الدولي في تفجير الرابع من أغسطس من شأنه أن يعزز المسار المحلي ويتكامل معه ويدعمه، ويخلق دينامية جديدة بانتظار أن تستعيد عجلة القضاء اللبناني دورانها بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وتستكمل تشكيلات الهيئة العامة لمحكمة التمييز لتتمكن من البت بطلبات الرد والمخاصمة المقدمة ضد المحقق العدلي القاضي طارق البيطار، وتقر التعديلات المطروحة على قانون أصول المحاكمات الجزائية بصورة تفقد طلبات المخاصمة وطلبات الرد صلاحية توقيف أو تعطيل أي تحقيق، كما هو حاصل الآن، فيصبح بإمكان أي محقق أن يستمر في تحقيقاته إلى حين صدور القرار النهائي من المرجع المقدم أمامه، أي دعوى رد بحقه”.