في كل مواقفه العلنية يصر “حزب الله” على أنه بادر إلى فتح معركة جنوب لبنان في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 تحت عنوان “مساندة غزة”، وأنه كان متمسكاً بما عُرف بـ “قواعد الاشتباكات”، أي ضمن كيلومترات محدودة على جانبي الحدود، ويشدد على أن التوصل الى وقف لإطلاق النار في غزة سينسحب أيضاً على لبنان.
إلا أن الأمر يبدو مختلفاً من المنظور الإسرائيلي، إذ توعد وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بمواصلة المواجهة مع “حزب الله” إلى حين دفعه إلى تسوية تتيح إعادة سكان مستوطنات الشمال، حتى لو تم التوصل إلى تسوية وضع قطاع غزة.
وفي هذا السياق أكد مصدر دبلوماسي غربي، طلب عدم الكشف عن اسمه، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اشترط على الإدارة الأميركية فصل المواجهة مع “حزب الله” عن مسار ونتائج أية مفاوضات مرتبطة بقطاع غزة، معتبراً أن خطابات الأمين العام للحزب حسن نصرالله المتكررة بأن حزبه قادر على احتلال الجليل ومناطق واسعة في شمال إسرائيل تعطي الذرائع لإسرائيل بالتصعيد السياسي والعسكري لضمان أمن مناطقها الشمالية، وكأنه يقول إنه قادر على صناعة “طوفان أقصى” من الناحية اللبنانية.
وكشف المصدر أن إيران حاولت الالتفاف على الموافقة الأميركية لنتنياهو عبر إشراك “حزب الله” بالمفاوضات مع “حماس” كذراع ديبلوماسية ينوب عنها، وذلك لمحاولة حمايته من أي هجوم إسرائيلي مفاجئ، كونه بات أحد عناصر التسوية في غزة، لافتاً إلى أن هذه السياسة هي هرب إلى الأمام، ولا سيما أن عناصر المفاوضات باتت مكشوفة للجميع، وهي تطبيق القرار (1701) وانسحاب العناصر المقاتلة، وتفكيك البنية العسكرية للحزب في الجنوب، وإدخال نحو 10 آلاف عنصر من الجيش اللبناني، إضافة إلى مراقبين دوليين يرجح أنهم سيكونون من الجنسية الكندية للإشراف على تفكيك هيكلية الحزب العسكرية ضمن منطقة جنوب الليطاني، ويتبع ذلك ترسيم الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل.
وأشار المصدر ذاته إلى أن ما يعرقل التوصل إلى تنفيذ هذه الشروط، هو محاولة “حزب الله” البحث عن انتصار معنوي يستخدمه داخلياً، ومنها الربط بملف انتخاب رئيس للبلاد يعتبره يحمي المقاومة، والإصرار على إدخال عبارة “الحق في تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا” في أية تسوية، علماً أن الفصل في النزاع حولها مرتبط بتطبيق القرار الدولي رقم (1680) الذي ينص على ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا.
خطاب حاسم
ويبدو أن الأمور ستستمر على وتيرتها خلال الأسابيع المقبلة بانتظار خطاب نتنياهو أمام الكونغرس خلال جلسة مشتركة ستعقد في الـ 24 من يوليو (تموز) الجاري، وذلك تلبية لدعوة رسمية وجهها إليه قادة الحزبين في مجلسي النواب والشيوخ الأميركيين، إذ تشير مصادر صحافية إلى أنه سيكون عالي النبرة ويوازي بين أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 الذي تعرضت له أميركا، وهجوم “طوفان الأقصى” الذي شنته “حماس” على إسرائيل في أكتوبر 2023.
ويتوقع أن يشير الخطاب إلى أخطار “حزب الله” الذي تصنفه الولايات المتحدة تنظيماً إرهابياً، وضرورة أن تكون أميركا إلى جانب إسرائيل في حربها على الإرهاب الذي سيصل إليها في حال عدم مواجهته.
وتبدي بعض الأوساط الصحافية الأميركية قلق إدارة الرئيس جو بايدن من الخطاب الذي قد يضعها في موقف محرج أمام الكونغرس، ويظهرها متقاعسة عن دورها في حماية الأمن القومي الأميركي في مواجهة التنظيمات الإرهابية.
وتشير الإحصاءات غير الرسمية إلى سقوط 513 شخصاً منذ بداية الاشتباكات، بينهم 460 مقاتلاً من “حزب الله” وحلفائه، في حين تشير هيئة البث الإسرائيلي إلى أن 28 إسرائيلياً قُتلوا بنيران “حزب الله” في الشمال منذ بداية عمليات تبادل القصف، بينهم 11 مدنياً و17 جندياً.
فصل “غزة” عن لبنان
وفي السياق يكشف المحلل في الشؤون الأمنية والسياسية العميد خالد حمادة عن أن “عودة المفاوضات في شأن التوصل إلى تسوية ما في غزة، وفقاً للمقترح الأميركي الذي عُدل إسرائيلياً، لم تعد مرتبطة بوقف لإطلاق النار”، وأضاف أنه “لا يبدو أن الاتفاق المحتمل في غزة قد يمكّن ‘حزب الله’ أو طهران من توظيفه لمصلحة وقف إطلاق نار في جنوب لبنان”، معتبراً أن التسوية في غزة هي تسوية عربية – أميركية – إسرائيلية لها مسارها، وقد تمكنت الدبلوماسيتان الأميركية والعربية من استيعاب شروط حركة “حماس” وتحويلها إلى ضمانات.
وأكد حمادة أن “الوضع في جنوب لبنان سيكون منفصلاً عن غزة، وأن الدبلوماسية الغربية برمتها، الفرنسية والألمانية وكذلك الأميركية، غير راغبة في احتواء ما يجري في الجنوب، على أساس أنه متصل بغزة، بالتالي فنظرية فتح النار في الجنوب على أساس مساندة غزة بدت غير قابلة للتسويق، على رغم المحاولات الحثيثة من ‘حزب الله’ للربط بهدف ترجمة التسوية إلى انتصار يحاول اختطافه من خلال وقف الحرب في غزة”.
ويرى المتحدث ذاته أن “تقديرات طهران لهذه الحرب مرتبطة باستخدام نهاياتها كما حصل عام 2006، على رغم التدمير الذي تعرض له لبنان عندما أصبح الاتفاق وكأنه خلفية دبلوماسية ضامنة لوجود ‘حزب الله’ العسكري في الجنوب، وهذا طبعاً ما قوّض تطبيق القرار رقم (1701)”، مشدداً على أن “هذه المعركة أفرزت كثيراً من الأصوات اللبنانية الرافضة للحرب والمنددة كذلك بتفرد ‘حزب الله’ باستخدام السلطة، واتخاذ القرارات لفرض معادلات عسكرية على لبنان، مما يتقاطع مع المطالب الغربية برفض ما يطرحه ‘حزب الله’ على صعيد ترتيبات أمنية في الجنوب، تعطيه فرصة للبقاء جنوب نهر الليطاني بما يخالف القرار رقم (1701)”.
ضمانات لـ “حزب الله”
من ناحيته، يشير المحلل الاستراتيجي العميد ناجي ملاعب إلى أن “حزب الله” يربط الحرب في غزة بجبهة جنوب لبنان وصولاً إلى اليمن والعراق، وهو “الرأس الحربي للمحور، لكن يبدو أن إيران تحاول أن تلعب هذه الورقة حتى النهاية طالما أنها لا تخسر بها أي شيء”، معتبراً أنه لو حققت إسرائيل منطقة عازلة في جنوب لبنان بين ثمانية إلى 10 كيلومترات، فإن ذلك لا يحميها من مدى الصواريخ الطويلة المدى والدقيقة التصويب لدى محور “حزب الله” والمجودة في لبنان وسورياً وصولاً إلى إيران.
واعتبر ملاعب أن “الحل يكمن عبر الضمانات السياسية بين ‘حزب الله’ وإسرائيل، أو بين إيران وأميركا”، وبرأيه فإذا “وصل هذا الموضوع كضمانة لإسرائيل، بمعنى أنه لم يعد هناك أي تهديد محتمل من الشمال، فإن إسرائيل لن تغامر في الحرب، وكذلك لبنان لن يكون مزعوجاً إذا أُعطي ‘حزب الله’ نوعاً من الضمانة”.
شروط “حماس”
وفي السياق يرى الإعلامي يوسف مرتضى أن “إسرائيل لم تتمكن من تحقيق أي هدف من أهدافها خلال تسعة أشهر من الحرب، مما عكس الفشل العسكري على الواقع الداخلي الإسرائيلي الذي يشهد انقسامات حادة على المستويين السياسي والشعبي، وكذلك تململاً على المستويين الأمني والعسكري”، معتبراً أن “المعارضة الإسرائيلية تواجه نتنياهو بقضية فشله في تحرير الرهائن في وقت دخلت أميركا مرحلة الانتخابات، مما يصعب الاستمرار بالحرب أو توسعها وإمكان استدراج إيران إلى حرب إقليمية”.
وبرأيه فإن النجاح في وقف الحرب على غزة بشروط “حماس”، ومن بينها انسحاب إسرائيلي كامل بما في ذلك من معبري “نتساريم” و”فيلادلفيا”، سيؤدي تلقائياً إلى وقف الحرب على الجبهة اللبنانية، وإذا كان الاتفاق أفضى إلى وقف الحرب عملياً، فحكماً في هذه الحال هناك مشروع مطروح مع المبعوث الأميركي الخاص إلى لبنان آموس هوكشتاين مع “حزب الله” لترسيم الحدود البرية، بما في ذلك استعادة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا.
إيران تراهن على أميركا
في المقابل رأى الكاتب السياسي مكرم رباح أن “الكلام عن حكمية انسحاب التسوية في غزة وقفاً لإطلاق النار مع لبنان غير دقيق، ذلك أن إسرائيل وحدت الجبهات في وجه المحور الإيراني، وهي تعتبر أن إيران تحاول تطويقها بالميليشيات مما يحتم مواجهة الخطر الإيراني على حدودها”، لافتاً إلى أن “الضربات التي يتعرض لها ‘حزب الله’ في لبنان أو سوريا ستستمر”.
واعتبر رباح أن “حزب الله”، بعكس ما يروج له الطرف الإيراني، غير قادر على الدخول في حرب مفتوحة، وأن رهان إيران والحزب على الديمقراطية الأميركية والإسرائيلية يؤكد إلى حد معين أن القتال العسكري لا يجدي نفعاً في المواجهة المفتوحة مع إسرائيل، بل كان من الأفضل لإيران ولبنان تحديداً أن تكون هناك مفاوضات دبلوماسية تؤدي إلى حلول أفضل من تدمير جنوب لبنان، والمسألة الأساس التي رسختها هذه المعارك هي أن لبنان وطن معزول سياسياً ودولياً، وما قام به “حزب الله” أنهى فكرة لبنان.