بالحقيقة هنا تكمن المشكلة و في هذا الكلام تحديداً جوهر الصراع الدائر في لبنان ، فهؤلاء و مهما حاولوا تغطية حقيقة نواياهم بشعارات فارغة كالوحدة الوطنية و غيرها ، هم يريدون السيطرة نهائيا على الدولة اللبنانية و إخضاعها لسلطتهم المطلقة و لو اختلفت المنطلقات بين المكونين الأساسيين لهذا الثنائي ، هم بالنهاية يسعون للهدف نفسه .
أولاً بالنسبة لحزب الله :
بالحقيقة و على ذمّة كثر من العارفين ببواطن الأمور في لبنان فإن حزب الله لم يقتنع يوما باتفاق الطائف و بالصيغة اللبنانية المعروفة ، هو عمل منذ تأسيسه على مشروع واحد وحيد لا بديل له ، تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية و تحويل لبنان الى نموذج مشابه لجمهورية الأئمة في طهران ، فذلك في صلب عقيدته و قناعاته مهما حاول بعض مسؤوليه المسايرة او استعمال التقية للتلطي خلفها و إخفاء النوابا الحقيقية .
هذا الحزب و في أيديولوجيته الأساسية لا يستطيع الإعتراف بكيانات و دول و حدود سوى حدود دولته الدينية الموعودة و كيانها ، و بإمكاننا مراجعة العديد من المؤلفات لكثر من منظري العقيدة عند هؤلاء لنلمس تلك الحقيقة بوضوح و هم لم يخفونها أصلاً ( و هذا حقّهم فنحن لا نناقش أحد في معتقداته لأننا في وطن يقدس حرية الرأي)، و لكن و من هذا المنطلق يعتقد كثر بأنه لا يمكن مفاوضة هذا الحزب لأن كل وعوده ستكون على سبيل المناورات بانتظار اللحظة الموعودة التي يستطيع تحقيق أهدافه فيها و هذا حقّهم أيضا .
عامل آخر و مهم بالنسبة لمعتنقي عقيدة الحزب استجدّ منذ سنوات و هو فائض القوة الذي يشعرون به نتيجة تفوّقهم العسكري النوعي على باقي المكونات اللبنانية ، ربما هم باتوا يعتبرون أن حجمهم صار أكبر من الكيان اللبناني و أن السيطرة النهائية على هذا الكيان أصبحت تحصيل حاصل و أمراً لا بد منه ، من هنا رأينا انقضاضهم على الدولة العميقة في لبنان ( القطاع المصرفي و التربوي و الصحي الخ.. ) التي انشأها الموارنة أصلاً و التي مكنت هؤلاء من حماية الكيان الذي أنشأوه لفترة طويلة من الزمن و هذا ما لم يسبق حزب الله عليه أحد ، فحتى حافظ الأسد عندما ضرب الموارنة حافظ على دولتهم العميقة و جيّر مكاسبها لمصلحته لكنه لم يحاول الغائها .
حركة أمل و رئيسها :
يقول البعض أن المحرك الأساسي خلف الرئيس بري لتحقيق هدف المثالثة هو طموحه الشخصي لتولي رئاسة الجمهورية و الذي أصبح بعيد المنال بعد تقدمه في العمر ( أطال الله بعمره طبعاً ) و السبب الآخر سلطوي يتعلق بنفوذه داخل الشارع الشيعي القائم على شبكة كبيرة من الخدمات و المصالح عصبها مؤسسات الدولة اللبنانية و الذي تراجع كثيراً لمصلحة حزب الله منذ ظهوره في الحياة السياسية و حتى اليوم .
من هنا تفضّل بعض الأطراف الأخرى التعاون مع حركة أمل ، التي لا تملك مشروعاً أيديولوجياً عابر للحدود و الكيانات يحرّكها و التي تعترف بنهاية المطاف بنهائية الكيان اللبناني حتى لو عملت ضمناً على تغيير النظام و ارساء الديمقراطية العددية التي ستمكن الشيعة بحسب اعتقادهم من حكم لبنان تحت ستار الغاء الطائفية السياسية و ربما هذا حقهم أيضا ، ذلك المطلب المزمن للرئيس بري و الذي ندرك جميعاً خلفياته و أهدافه المعاكسة تماماً له .
اذاً و بالعمق كان ذلك الصحافي صريحاً جداً و قال بالعلن ما يقوله جميع أتباع الثنائي الشيعي في السر ، هم يريدون ببساطة السيطرة على كل مفاصل الدولة و يريدون رئاسة الجمهورية و غيرها من المناصب الكبرى لتحقيق هذا الهدف .
من هنا بالتحديد يمكن فهم السبب الحقيقي للتعطيل الذي يمارسونه عند كل استحقاق دستوري متعلق بمناصب معينة في الدولة خاصة الرئاسة الأولى .فهم يعملون على إطالة أمد الفراغ فيها ليأتوا في النهاية و يقولوا للجميع أن هذا النظام لم يعد صالحاً و لم يعد يتناسب مع موازين القوى الجديدة في لبنان ، و علينا بالتالي البحث عن صيغة أخرى تعطي المكاسب الأساسية للطرف الأقوى في المعادلة اللبنانية ( أي الشيعة) و هذا ما يفسر أيضاً الالتفاف الشعبي الشيعي الكبير حول الثنائي .
ما يتجاهله الثنائي عمداً أو عن غير قصد ، لا ندري ، أن الموارنة انشأوا الكيان اللبناني أصلاً ليعيشوا فيه أحراراً وسط هذه المنطقة المظلمة من العالم ، و أن هؤلاء ربطوا مصيرهم و استمرارية وجودهم في العالم بهذا الكيان و هم بالتالي لا يستطيعون التفريط به و بمكاسبهم داخله مهما كان الثمن لأن ذلك يعني انتحاراً جماعياً لهم و الغاءاً نهائيا لوجودهم و بالتالي تحوّلهم الى شعب مشرّد في العالم لا أرض له و لا هوية .
و ما يتجاهله الثنائي أيضاً هو قوة الموارنة في لبنان و العالم و التي سيجيرونها لمصلحة الكيان الذي أنشأوه ان أحسوا يوماً بخطر حقيقي يحوم حوله ، و اذا اعتقد الثنائي أن الضربات التي وجهها نظام الأسد للموارنة زمن الوصاية قد قضت عليهم فيكونون عندها مخطئين جداً فلا الرأسمال الأساسي للموارنة انتهى و لا مؤسساتهم سقطت و لا دولتهم العميقة انتهارت .
ربما الأموال المارونية انتقلت للاستثمار خارج لبنان و لكن يمكن ان تعود عندما يحين الوقت فهي لم تنضب ، و ربما مصارفهم تعثرت و لكنها ما زالت حتى اليوم صلة الوصل الأساسية بين لبنان و النظام المالي العالمي و لا يمكن للملاحقين دولياً بتهم كثيرة تبدأ بالارهاب و لا تنتهي بتجارة المخدرات و غسل الأموال أن يحلوا مكانها في هذا الموضوع ، هذا عدا عن ارسالياتهم التي ما زالت الأقوى و من بعيد في لبنان و مستشفياتهم و جامعاتهم ووسائل إعلامهم و التي تكيفت مع الأزمة و بدأت باستعادة عافيتها .
في التاريخ الحديث ، كل من صارع الموارنة حول لبنان و هويته سقط و رحل و هم بقوا و أبقوا لبنانهم معهم رغم خلافاتهم و مشاكلهم الكثيرة ، و هذه القاعدة لن يستطيع الثنائي كسرها حتى لو حقق بعض التقدم و النقاط على حساب الموارنة عندما نجح باختراقهم من الداخل و تجيير إحدى قواهم الأساسية لمصلحته ، و لكن و كما رأينا في الانتخابات الأخيرة عاد المسيحيون و انتفضوا على هذا الواقع و حتى تلك القوة التي اختُرقوا بها بدأت بالابتعاد تدريجياً عن الثنائي لتكلفة تحالفها الباهظة معه عليها شعبيا داخل مجتمعها بالدرجة الأولى.
فوجود التيار العوني و حضوره اليوم داخل المجتمع المسيحي أصبح مرهوناً بشكل كلي تقريبا بمدى ابتعاده عن حزب الله ، فكلما اقترب منه انهار شعبيا أكثر و كلما ابتعد عنه حافظ على ما تبقى له من قواعد .
على الثنائي أن يعي هذا الواقع و لا يجر المسيحيين بالتالي الى خيارات لا يريدونها و عليه أن يدرك أن هؤلاء لا يمكن ان يقبلوا بإلغاء وجودهم و ان استطاع بلحظة ما من تحقيق أهدافه فسيعملون بكل قوتهم و طاقتهم على تقسيم لبنان ووقتها فليذهب كل واحد في طريقه و ليفعل ما يشاء .
على الرماديين و الغوغائيين أن لا يسخّفوا الصراع الحاصل كما يفعلون دائماً و عليهم أن يدركوا عمق المشكلة و جوهرها و الا فليخرجوا من السياسة و ليصمتوا نهائيا ، فالصراع وجودي و كبير جداً ، هو ليس على منصب من هنا و مكسب من هناك ، انه حول الهوية و الدور و المستقبل و ليس أقل من ذلك ابداً ، لذا سيأتي يوم تجبرهم الأحداث على تحديد خياراتهم بوضوح و صراحة قبل أن يلفظهم الجسم اللبناني و يصبحوا من الماضي …
و بالرغم من كل شيء سنظل نعتقد أن لبنان لا يخلو من العقلاء الذين سيعملون و في لحظة معينة على ضبط خطاب الثنائي و إعادته الى أرض الواقع ليرى الصورة كما هي لا كما يحب أن يراها .
و ربما سنظل نتخبط في الأزمات و الصراعات الى أن يأتي زمن الحلول النهائية و التي حتماً لن تنتهي الا بثبيت الهوية التاريخية للبنان حاضن المضطهدين في هذا العالم و ملجأ الأحرار في هذه الأرض .