منذ اندلاع المواجهات على الحدود اللبنانية مع إسرائيل في أعقاب الحرب بين حركة “حماس” وإسرائيل في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ومن ثم دخول “حزب الله” في حرب المساندة، أثار سلوكه، خصوصاً طريقة تعامله مع خسائره البشرية تساؤلات حول موقفه الراهن ومدى ارتباكه في هذه المرحلة الحساسة.
لوحظ أن الحزب قلص بصورة ملحوظة من إعلاناته عن نعي مقاتليه الذين يسقطون في الاشتباكات على الحدود الجنوبية، إلى حد التوقف، مما لم يكُن معتاداً خلال حروبه السابقة، إذ كان يسارع إلى الإعلان عن قتلاه ترويجاً لفكرة “المقاومة” والتضحية في سبيل تحرير القدس.
ووفقاً للتقارير الصحافية، ما زال هناك عدد كبير من القتلى المدنيين تحت الأنقاض في الضاحية الجنوبية لبيروت وبعض مناطق البقاع والجنوب بطبيعة الحال.
هذا التحول في التعامل الإعلامي يثير تساؤلات حول ما إذا كان “حزب الله” يشعر بأنه في مأزق استراتيجي، خصوصاً وسط التحديات المتزايدة على جبهات عدة، فالحزب يواجه ضغطاً داخلياً من بيئته الحاضنة التي تراقب بحذر كلفة الدخول في حرب جديدة مع إسرائيل، وسط ظروف اقتصادية خانقة في لبنان.
وفي الوقت نفسه، يتعين على الحزب أن يوازن بين التزامه تجاه “محور الممانعة” وشعاره الذي كثيراً ما رفعه “على طريق القدس”، وبين الخطر الكبير الذي يتهدده في حال تصعيد المواجهة إلى حرب شاملة قد لا تكون في مصلحته. ومع سقوط هذا الشعار، أو في الأقل تراجعه مع الظروف الراهنة، يجد الحزب نفسه أمام معادلة صعبة، كيف يمكنه الاستمرار في تقديم نفسه كقوة “مقاومة” متمسكة بقضية “تحرير فلسطين” في وقت يبدو أنه يحاول تقليل الخسائر البشرية والاقتصادية في صراع لا يخدمه حالياً.
هذه الأسئلة تضع “حزب الله” أمام تحديات استراتيجية كبيرة، فيجب عليه تحديد مسار واضح وسط تعقيدات داخلية وإقليمية متزايدة.
وكانت عمليات النعي توقفت منذ الـ28 من سبتمبر (أيلول) الماضي، عند نعي القيادي علي كركي الذي قضى في الحادثة نفسها مع اغتيال الأمين العام للحزب حسن نصرالله، وهو القائد العسكري الثالث في الحزب بعد فؤاد شكر الذي اغتالته إسرائيل في الضاحية الجنوبية لبيروت في الـ30 من يوليو (تموز) الماضي، وإبراهيم عقيل الذي قتل بغارة إسرائيلية أيضاً في المنطقة نفسها في الـ20 من سبتمبر الماضي.
وعلى ما يبدو فإن الحزب توقف عن نعي عناصره بعدما كان وصل العدد إلى 510 عناصر، بما يفوق عددهم في حرب يوليو 2006، إذ وصل طوال تلك الحرب التي استمرت نحو 34 يوماً، إلى 450 مقاتلاً، ولكن ووفقاً للادعاءات الإسرائيلية سقط 530 مقاتلاً، علماً أنه لا يمكن التحقق من الرقم النهائي لأن الحكومة اللبنانية لا تفرق بين المدنيين والمقاتلين في أرقام القتلى.
أما اليوم وبعد اشتعال جبهة الجنوب وبدء التوغل البري، فلم يعُد متوافراً العدد الصحيح، لكن بحسب زعم الجيش الإسرائيلي وعلى لسان المتحدث باسمه دانيال هاغاري، أنه و”منذ بداية (الهجوم)، أردت القوات (المسلحة) نحو 440 إرهابياً، بينهم 30 قيادياً برتب مختلفة”، خلال العمليات البرية والجوية، وبطبيعة الحال لا يمكن تأكيد هذا الرقم.
الحفاظ على السرية
كان “حزب الله” اعتاد على نعي قتلاه يومياً، وإعلان أوقات تشييعهم في بلداتهم وتنظيم احتفالات تكريمية لهم بحضور مسؤولين منه، وكانت بيانات النعي تذيّل بعبارة “على طريق القدس”. فلماذا توقف الحزب عن نعي عناصره وقادته، وهل يقع ذلك ضمن استراتيجية تقليل إعلانه عن الخسائر، أو أن ذلك لأسباب أمنية أو ربما لوجستية؟.
مصدر مقرب من “حزب الله”، وهو متخصص في الصورة الإعلامية، فضل عدم ذكر اسمه، يرى أن الإعلان عن أسماء عناصر الحزب أو القادة الذين يسقطون في المعارك قد يوفر معلومات حساسة للأعداء، حول أماكن العمليات أو قوة الحزب، ولذلك فإن الحفاظ على السرية يعزز من حماية الحزب لعناصره ولاستراتيجيته.
وقال المصدر “من الأسباب المهمة أن العدد الكبير لبيانات النعي قد تؤدي إلى تأثير نفسي سلبي في القاعدة الشعبية للحزب، وتقليل الإعلان عن الخسائر قد يكون وسيلة للحفاظ على معنويات أنصاره ومنع القلق أو الإحباط في ما بينهم، وعدم استخدام ذلك الأمر في إطار الحرب النفسية”.
وربما وفقاً للمصدر نفسه أن عدم الإعلان يُستخدم كتكتيك إعلامي لتفادي تقديم “انتصارات” إعلامية لإسرائيل، وقد يكون وسيلة لتجنب التركيز على الخسائر في بعض الحروب، مما يضعف صورة الحزب في الصراع. وقد يفضل الحزب في هذه المرحلة التركيز على نعي بعض القادة البارزين فقط لإعطائهم أهمية خاصة، بدلاً من نعي كل عنصر يسقط على حدة، مما يعزز من رمزية القيادة والقدوة داخل الحزب.
وأضاف أن ذلك “ربما يعود لأسباب لوجستية، إذ إن مناطق عدة في الضاحية الجنوبية ضربت، وتضرر مركز العلاقات الإعلامية في الحزب بطبيعة الحال، مما سيؤخر عودة تلك العملية إلى وضعها الطبيعي لفترة من الوقـت قد تطول أو تقصر تبعاً للأوضاع الأمنية، وربما تكون هناك صعوبة في إدارة عمليات النقل والتوثيق السريع لأعداد القتلى، خصوصاً في ظل القصف الإسرائيلي المتواصل، مما يصعب على الحزب في بعض الحالات تحديد هوية الجثث أو القيام بعمليات تشييع لائقة في وقت حساس”.
إذاً، قد يكون توقف “حزب الله” عن نعي مقاتليه مدفوعاً بمجموعة من الأسباب اللوجستية والاستراتيجية، سواء للحد من التأثير السلبي في معنوياته أو لتعقيد حسابات خصومه في هذه المرحلة الدقيقة، ويتابع المصدر أن هذا التوجه قد يكون جزءاً من استراتيجية أوسع للحزب في التعامل مع حرب الإعلام والمعلومات في ظل الوضع الحالي، وربما يرى الحزب أن المرحلة الحالية هي جزء من صراع طويل الأمد، ويرغب في الحفاظ على عنصر المفاجأة وتقليل المعلومات المتاحة لخصومه، بما في ذلك عدد القتلى، وهذا التوجه قد يشمل تقييد النشر والتعتيم الإعلامي على حجم الخسائر لتجنب الكشف عن حجم مشاركته الحقيقي في الاشتباكات وتحركاته.
“إشارة ضعف”
لكن يعتبر بعض المتابعين والمراقبين لسياسات “حزب الله” أن توقفه عن نعي عناصره وقادته بصورة منتظمة ضعف من بعض الزوايا، خصوصاً إذا نظر إلى ذلك من منظور “الأعداء” أو حتى بعض الأطراف المحايدة، ومن المحتمل أن تفسر بعض الجهات هذا التحول على أنه محاولة لإخفاء الخسائر أو الفشل في العمليات العسكرية، مما يمكن أن يُفسر على أنه إشارة إلى ضعف في الأداء العسكري أو قلة الحماسة في المعارك.