لبنان ليس دولة فقيرة، هذه حقيقة يجب أن تُقال، فهذا البلد يمتلك ثروات طبيعية وإمكانات بشرية وعلمية وقدرات اقتصادية تؤهله ليكون دولة حديثة ومتقدمة، متصلاً بالعصر ومنفتحاً على العالم وقادراً على النهوض الذاتي، لكن المأساة أن لبنان ليس دولة مفلسة، بل دولة منهوبة. والنهب ليس جريمة فردية، بل منظومة متكاملة تتحكم بها مافيا سياسية متحالفة مع ميليشيا عسكرية، استولت على الدولة وأحكمت قبضتها على مقدراتها.
هذه الحقيقة يدركها كل لبناني من الشمال إلى الجنوب ومن الساحل إلى الجبل. ما يُعرف في القاموس الشعبي بتحالف “المافيا والميليشيا” هو الذي دمر المؤسسات، وصادر القرار الوطني ومنع ولادة الدولة الحديثة. واليوم، مع تراجع سطوة الميليشيا وتآكل هيبتها داخلياً وخارجياً تتسلل المافيا لتعيد تثبيت نفسها في مفاصل السلطة، وتسعى إلى حماية فلول الميليشيا لا حباً بها ولا تمسكاً بما يسمى “المقاومة”، بل خوفاً من أن تنكشف وحدها وتتحول إلى الهدف التالي للمحاسبة.
المفارقة الفجة أن هذه المافيا نفسها، التي حكمت لبنان منذ “اتفاق الطائف”، وشاركت في كل الحكومات من دون استثناء، تحاضر اليوم بالإصلاح وتدعي محاربة الفساد. هي التي تدفع البلاد نحو الاستدانة، وتلهث وراء المؤتمرات الدولية بحثاً عن قروض ومنح ومساعدات، تعلم جيداً أنها ستُنهب كما نُهبت قبلها عشرات المليارات، من باريس (1) إلى باريس (4) مروراً بمؤتمر “سيدر”، وكل ما قبله وما سيأتي بعده إذا استمر هذا النهج.
الاستقرار النقدي
الإنجاز الوحيد الذي يمكن الاعتراف به اليوم هو الاستقرار النقدي، فمنذ عامين بدأ لبنان يشهد نوعاً من التوازن في سعر الصرف بعد انهيار مالي كارثي. هذا الاستقرار، وإن كان هشاً، شكل بارقة أمل لإعادة تنظيم الاقتصاد وركيزة يمكن البناء عليها لتصحيح المسار.
لكن من المهم أن ندرك أن هذا الاستقرار لم يأتِ من فراغ، بل كان نتيجة مسار دقيق اعتمده مصرف لبنان، الذي كسر معادلة الدعم العبثي، وأوقف تمويل الخزينة بطباعة الليرة، وربط الاستقرار النقدي بانتظام الجباية. هذه المعادلة رفعت من احتياطات المصرف المركزي ما بين 50 إلى 100 مليون دولار شهرياً، أي نحو 1.2 مليار دولار خلال عام ونصف العام فقط. وهي أرقام لم تُسجل حتى في أوج “الازدهار الوهمي” الذي عاشه لبنان عقوداً. والأهم أن هذا الاستقرار، لو ترافق مع استقرار سياسي وموسم سياحي ناجح، قادر على إدخال ما بين 3 إلى 5 مليارات دولار إلى السوق اللبنانية خلال أشهر قليلة، وهذا وحده كفيل بخلق دورة اقتصادية نشطة، لا تحتاج إلى ديون مشروطة ولا إلى استجداء المساعدات.
تمويل للجلاد
كل تجربة الاستدانة والمساعدات الخارجية في لبنان منذ التسعينيات حتى اليوم أثبتت أمراً واحداً: هذه الأموال لا تبني دولة، بل تمول الجلاد الذي يسلخ جلد اللبنانيين. تأتي الأموال من الخارج، تمر عبر المصارف أو الوزارات أو المؤسسات العامة، فتمر من “مصافي الفساد”، وتخرج من الجهة الأخرى، وقد اقتطع منها المعلوم لكل زعيم، وارتُجلت صفقات وعمولات وتسويات على حساب الشعب.
خذوا مثلاً قطاع النفط، الدولة تشتري النفط عبر شركات وسيطة يملكها سياسيون نافذون، وتدفع سعراً يزيد بنسبة 20 في المئة على السعر الحقيقي، فقط لأن جهة سياسية ما قررت أن تكون وسيطاً بين الدولة والأسواق العالمية، هذه الزيادة وحدها تمول جزءاً من الماكينات السياسية والحزبية.
مثال آخر: التهرب الجمركي، مئات ملايين الدولارات تضيع كل عام، لأن البضائع تدخل تحت غطاء “الجمعيات المدنية والخيرية”، فتعفى من الرسوم. هذه الجمعيات ليست سوى غطاء قانوني لحيتان السوق والسياسة. أضف إلى ذلك الكارثة المزمنة، ملف النفايات، إذ تدفع مليارات الدولارات لشركات لا ترفع النفايات ولا تطمرها، بل تكدسها على الطرقات، والمردود؟ أرباح خيالية لجيوب السياسيين. هذا من دون الحديث عن الأملاك البحرية المصادَرة، وصفقات الاتصالات المشبوهة، والمحاصصة في المناقصات والوظائف العامة التي تُمنح كجوائز ترضية لا كمواقع لخدمة الناس.
استثمارات وإصلاحات
من هنا، لا معنى لأي قرض يُمنح للبنان في ظل هذه المنظومة، بل هو جريمة موصوفة بحق الشعب. كل قرض هو تمويل إضافي للمافيا، كل منحة هي رشوة مغطاة لأمراء الطوائف.
الحل؟ ليس في الضخ المالي، بل في فتح أبواب الاستثمار. لبنان بحاجة إلى إصلاحات جذرية تعيد بناء الثقة: قضاء مستقل، إدارة نزيهة، عدالة شفافة، شفافية مطلقة، بيئة قانونية مشجعة، لكن هذه البيئة لن تُبنى ما دام هناك سلاح غير شرعي. الميليشيا المسلحة، ولو لم تعد تحكم كما في السابق، لا تزال تفرض مناخاً طارداً لأي مستثمر حقيقي. لا أحد يستثمر في بلد يخاف فيه من أن يصادَر مشروعه بقرار حزبي أو أن يُمنع من العمل بتهديد مبطن، كذلك فإن غياب العدالة وانهيار القضاء يدفعان المستثمرين إلى الخارج، من سيأتي ليضع أمواله في بلد لا يستطيع أن يضمن فيه استرداد حقه في حال نشب خلاف بسيط؟
الاستثمارات تُبنى على الثقة، والثقة تُبنى على الإصلاح لا على المساعدات.
لا تسهموا في سرقتنا
الرسالة التي يجب أن تصل إلى المجتمع الدولي واضحة وصريحة: لا نريد منكم قروضاً ولا هبات ولا منحاً، نريد منكم موقفاً سياسياً وأخلاقياً حازماً: اضغطوا على السلطة اللبنانية لتفكيك المافيا والميليشيا، ساعدوا لبنان بفرض الإصلاح لا بتمويل الفساد.
ساعدونا بأن تمنعوا عنهم المال، لا أن تغذوهم به، فكل دولار يأتي إلى هذه السلطة هو رصاصة في صدر الشعب. أما المستثمرون فهم وحدهم القادرون على بناء اقتصاد فعلي، شرط أن تكون البيئة آمنة والقوانين عادلة والسلطة خاضعة للمحاسبة.
لبنان لا يحتاج إلى شفقة، بل إلى عدالة، لا يحتاج إلى صدقات، بل إلى شراكات حقيقية، لا يحتاج إلى تسول، بل إلى كسر المافيا وتفكيك اقتصاد الريع والفساد.
هذه هي المعركة المقبلة: ليست معركة المال، بل معركة الدولة.