مستغرب هذا الإصرار غير المسبوق لرئيس دولة عظمى كفرنسا على الدخول في زواريب السياسة اللبنانية ووحولها ، و المستغرب أكثر هذا الجنوح و التطرف بتبني خيار يرفضه أغلب اللبنانيين و بشكل خاص المسيحيبن و محاولة فرضه بالقوة و بفوقية مقيتة عليهم …
كثر لم يفهموا حتى الآن لما غاص ايمانويل ماكرون عميقاً في الوحول اللبنانية و كثر لم يفهموا هذا الإصرار الغريب منه و الذي يحمل في طياته بوادر كسر ارادة فئة لبنانية كبرى لمصلحة فئة أخرى ، ذلك الإصرار على الاستمرار بخيار أصبح واضحاً انه من شبه المستحيل إمراره داخلياً أو حتى اقليميا و دولياً …
لنفهم ما يجري علينا أن نعود الى بدايات صعود ما سمي باليسار المستجد في دول العالم الحر و الذي لا يشبه بأي شكل من الأشكال اليسار التقليدي المعروف لنا جميعاً ، فما هو هذا “اليسار” و هل هو حقاً يسار ام انها مجرد تسمية فارغة لا تحمل شيئاً في مضمونها من اليسار السياسي العالمي ؟؟
منذ سنوات و نحن نشهد موجة جديدة داخل مجتمعات دول العالم الحر ، هذه الموجة التي يمكن تسميتها بالتيار السياسي الجديد حتى لو تلطّى جماعته بأحزاب كبرى كالحزب الديمقراطي الأميركي و إخوته في الدول الأخرى فمن هم هؤلاء ؟؟
تُجمع الكثير من التقارير في العالم أن كارتيلات ضخمة تضم شركات كبرى ، تلك الكارتيلات التي كانت في الظل لسنوات طوال و حاولت الاستفادة بطرق غير مباشرة من سياسات الدول لتحقيق مصالحها ، قررت منذ حوالي العقدين و نيف الدخول مباشرة في المجال السياسي من خلال تأمين الدعم لأشخاص و مجموعات يتبعون لها مباشرة و إيصالهم الى السلطة ليكونوا في خدمتها بشكل كلي و مباشر و لينفذوا بالتالي تعليماتها و خططها التي يمكن ان تتضارب في أحيان كثيرة مع مصالح الدول ..
هذا الدخول العلني و المباشر تجلّى بشكل واضح و فاقع من خلال الولايتين الرئاسيتين لباراك أوباما ، ذلك الرئيس الذي فقدت الولايات المتحدة معه الكثير من وهجها و حضورها و سطوتها في العالم ، و ما إصراره على توقيع الإتفاق النووي مع طهران تحت أي ظرف و بأي شروط تقريباً سوى الدليل الواضح على طاعته العمياء للكارتيلات التي أتت به و تنفيذه سياستها و مصالحها حتى لو كانت على حساب مصالح اكثر أهمية للولايات المتحدة و حلفائها التاريخيين في العالم …
هذا ما رأيناه في فرنسا أيضاً و بشكل أكثر وضوحاً مع وصول إيمانويل ماكرون على حساب اضمحلال الإشتراكيين بشكل خاص، هو الآتي أصلاً من رحم اليسار المنهار في فرنسا ، فلو تمعنّا قليلاً لوجدنا أن الكتلة اليمينية حافظت على قوتها رغم تشتت اصواتها بين احزاب يمينية متفرقة و لوجدنا أيضاً أن حزب ماكرون استطاع أن يرث اليسار إضافة الى كل المتضررين من سياسة الأحزاب اليمينية في فرنسا ليصل الى السلطة …
اذا و بالشكل ماكرون يمكن ان يُحسب على الجناح اليساري في فرنسا كما حُسب أوباما على الديمقراطيين في أميركا و لكن و في المضمون هو الإبن الشرعي لمجموعة الكارتيلات المالية والتي قررت دخول السياسة الفرنسية بشكل مباشر و الإتيان بأشخاص يطيعونها و ينفذون تعليماتها و من هنا رأينا تمايز ماكرون الدائم في سياساته تجاه طهران عن سائر دول الإتحاد الأوروبي و تقرّبه الدائم منها طمعاً بمكاسب لاحقة لتلك الكارتيلات بعد رفع العقوبات عن نطام الأئمة الإيراني …
من هذا المنطلق فقط يمكن فهم ما يفعله هذا الرجل في الملف اللبناني و خاصة لجهة تبنيه المطلق لوجهة نظر محور ايران و “الاستقتال” في تسويقها عربيا و عالمياً ، حتى اصبحنا غير قادرين على التمييز ان كان ما يفعله هذا الرجل هو سياسة فرنسية في الشرق الأوسط أو سياسة إيرانية تنفذ بأيادٍ و أدوات فرنسية !!!
ففي صفقة الرئاسة اللبنانية و رغم ادراكه لاستحالة السير بها أولا لرفض القسم الأكبر من القوى في الداخل اللبناني لها و امتلاك تلك القوى القدرة على التعطيل و ثانيا للرفض السعودي المطلق لهكذا مبادرة و ابلاغ الفرنسيين بذلك ، فلما هذا الإصرار اذاً ؟؟
كلنا سمعنا في الآونة الأخيرة عن صفقات تمت في باريس رعتها شركات نافذة و رجال أعمال كبار و كلنا سمعنا و قرأنا عن تعهدات بتقديم استثمارات لفرنسا بالمليارات خلال العهد الجديد في لبنان بموضوع النفط و المرفأ و المطار و المصارف و غيرها لقاء إيصال شخصية من محور الممانعة الى الرئاسة ، هذه هي بالتحديد الصفقة الرئاسية المغلفة بشعارات طنانة و رنانة لا علاقة لها فعلياً بانتخابات رئاسية او بتوافق لبناني أو سياسات اصلاح مطلوبة لإنقاذ لبنان لا بل هي امعان في الفساد و السمسرات و استمرارٌ بسياسة قضم كل ما تبقى من لبنان و تقديمه للغرباء لقاء مطامع و احلام سلطوية معروفة …
ربما تعامل ماكرون بسذاجة او بخبث مع الملف اللبناني ، لا ندري ، و ربما لم يقرأ جيداً المتغيرات في بلدان الخليج العربي و الجيل الجديد الذي تسلم الحكم هناك و اعتقد أن ما كان يصلح في زمن مضى يمكن تطبيقه أو تمريره اليوم !!! و ربما الغرور و العنجهية دفعاه الى الاعتقاد أنه و بمجرد ابرام صفقة ما ، بإمكانه إخضاع الجميع في الداخل اللبناني و اجبارهم على السير بها ، و حتماً ستثبت الأيام انه كان مخطئاً في كل الحالات …
لن نغوص اكثر في تفاصيل تلك الصفقات المقيتة و المعيبة لكننا نكتب هذا الكلام لنقول شيئاً واحداً :
الغرب الذي عرفناه و أحببناه و تبنينا قيمه و مبادئه و صدقناها رغم بعض الأخطاء التي ارتكبت لم يعد كما هو مع هؤلاء اليوم ، و هذا الغرب تحديداً ( العالم الحر) بدأ يخسر نفوذه و يتراجع رويداً رويداً أمام التنين الصيني بسبب سياسات تلك الكارتيلات التي اتت بأزلامها الى السلطة من الولايات المتحدة الى بعض اوروبا ، هؤلاء الذين يبصمون على اجنداتها الخاصة دون تفكير و بمعزل عن مصالح دولهم و سياساتها البعيدة المدى في العالم .
سيستمر هذا العالم الحر بالتراجع و وبما سينتهي بأفول نجمه نهائياً ان لم تستدرك مجتمعاته ما يحصل و تنتفض على تلك الكارتيلات الشيطانية و تعزلها أو أقله تعيدها الى حجمها الطبيعي الذي لا ينافس مصالح الدول أو يتخطاها كما يحصل الآن ، فمن يستطيع مثلاً ضمان ان تلك الكارتيلات لن تتفوق مصالحها مع الصين على مصالح بلدانها و تدفعها تلك المصالح بالتالي للعمل على توسعة النفوذ الصيني مقابل اضعاف نفوذ دول العالم الحر ؟؟
مشكلة الغرب اليوم ليست مع اخصام خارجيين … مشكلته داخله … مشكلته هي مع نفسه و في الداخل مع الشركات المنتفخة و المتضخمة و التي اعتبرت نفسها أكبر من البلدان و قدمت مصالحها على مصالح بلدانها و علاقاتها في العالم و هذا الذي لا يمكن أن يستمر لأنه عاجلاً أم أجلاً سينهي ما تبقى من دول حرة و متقدمة في عالمنا و سيفتح الباب على مصراعيه أمام التنين الصيني ليحكم الكرة الأرضية على حساب قيم و مبادئ أحرار هذه الأرض …