كثرت في الأونة الأخيرة التصرفات الشاذة التي يتعرض لها اللبنانيون من بعض شعوب الدول المحيطة ، فتارة يتهم احدهم فنانة لبنانية بالعنصرية لأنها لم تؤمن الحليب لأطفال سوريا بعد الزلزال و هو يعلم أن لا حليب لأطفال بلدها أصلاً و تارة أخرى نرى هجوماً دونياً مقيتاً و مقرفاً على فنانة لبنانية ثانية يتهمها بالعنصرية لمجرد مطالبتها بعودة اللاجئين الى بلدانهم لأن وطنها المنهار لم يعد يحتمل فماذا يجري ؟؟
كلمة واحدة ترددها و باستمرار أغلب الشعوب المحيطة بنا كلما صرخ اللبنانيون من هول الأعباء التي رماها هؤلاء عليهم منذ ما قبل الحرب و حتى اليوم هي “العنصرية” ، ذلك الاتهام المعلّب و الجاهز و السريع للبنانيين من هذه الشعوب …
أولاً علينا ان نفهم ما هو التعريف العلمي لكلمة عنصرية ؟؟ ” العنصرية هي ممارسات تقوم على اضطهاد وتهميش فئات أشخاص ومجموعات لأٍسباب منها العرق أو اللون أو الدين أو الثقافة” .
لنقرأ بتمعن هذا التوصيف و لنجري مقارنة بسيطة بين لبنان و بعض شعوب الدول المجاورة علّنا نفهم حقاً من هم العنصريون الفعليون قبل الانتقال لشرح اسباب اتهام اللبنانيين الدائم بذلك …
أول تلك الممارسات العنصرية التي تحفل بها أغلب دول الجوار و اكثرها وضوحاً هي مقدمات دساتيرهم و التي تعطي بلدانهم صبغة دينية محددة و تستوحي بالتالي كل قوانينها و سننها منها ، هذه الممارسة الإلغائية بمعنى أو بآخر لحق الاختلاف بين مواطني البلد الواحد و المسببة الرئيسية للتعامل مع الآخر بدونية و اعتباره بالتالي مواطن درجة ثانية ما يبقي على حقوقه منتقصة هي العنصرية بذاتها …
الوطن الوحيد تقريباً المخالف لتلك القاعدة في المنطقة هو لبنان ، الذي نصّ دستوره صراحة على أن لا دين معيّن للدولة و بالتالي هو يحترم حرية المعتقد و حق ممارسة الشعائر و المعتقدات و يتعامل مع الجميع بسواسية ، فمن يكون العنصري و بصلب دستوره ؟ اللبناني أم من يتهمون اللبناني بها ؟؟
ثانيا : متى اضطهد اللبنانيون اللاجئين عندهم بسبب دينهم أو لونهم او هويتهم ؟؟ جلّ ما يقوله اللبنانيون اليوم ان بلدهم منهار و أن عدد النازحين لديهم تخطى قدرة بلدهم على الإستيعاب و كل الحدود المعقولة فأين العنصرية في ذلك ؟
أما فيما خصّ الفلسطينيين سابقا فقد دمر هؤلاء الدولة و حاولوا السيطرة عليها و حاربوا السكان المحليين بالحديد و النار و ارتكبوا المجازر الطائفية بحقهم و دمروا قراهم و مدنهم و ذبحوا و هجروا اهلها في وطنهم و ما مجزرة الدامور سوى أكبر شاهد على ذلك .. فأين العنصرية عند اللبنانيين وقتها و من كان العنصري و الطائفي حقا ؟ الغريب الذي اعتدى على المواطنين الآمنين في بلدهم أم أهل البلد ؟
سنكتفي بهذه الامثلة و لن نسترسل في تعداد الممارسات العنصرية التي ارتكبت في لبنان او المرتكبة في البلدان المجاورة لأنها أكثر من أن تحصى أو تعد و ما تقارير المنظمات العالمية ذات الصدقية ( و ليس جميع المنظمات) على مدى عشرات السنين حول الممارسات العنصرية عند تلك الشعوب و الاضطهاد الديني و العرقي سوى أكبر دليل على ما نقول .
نحن اجرينا تلك المقارنة في معرض الحديث عن اتهام اللبنانيين بالعنصرية و ليس من باب انتقاد تلك الشعوب و البلدان لا سمح الله ، فهم أحرار بشؤونهم و ادارتهم لبلدانهم و لا شأن لنا نحن بذلك لا من قريب و لا من بعيد ، اجرينا المقارنة سريعاً لتقول فقط انهم ليسوا أحراراً ابداً في استسهال اتهام الآخرين بما هو فيهم أصلاً .
لنرجع الى أصل الموضوع و هو سبب اتهام اللبنانيين الدائم بالعنصرية :
لطالما عانت بعض الشعوب المحيطة من مشكلة في التعامل مع الظاهرة اللبنانية في هذه المنطقة و التي تميزت عن الجميع بالانفتاح على العالم و تأمين أجواء ملائمة من الحريات العامة و الفردية لم تكن متاحة في المحيط و ربما ما زالت حتى يومنا هذا غير متاحة أيضاً ..
من هذا المنطلق و لأن الحرية مُعْدية حاول بعض ذلك المحيط و بالتعاون مع عملاء له في الداخل و هم المرتبطون به طائفيا و مذهبيا و لا يعترفون ضمنيا بنهائية الكيان اللبناني بل يعتبرونه امتداداً طبيعيا لمشاريع قومية و دينية محيطة .. حاول هؤلاء إغراق لبنان بكميات ضخمة من المشاكل و الفوضى لا قدرة للوطن الصغير على استيعابها ..
من هنا أيضاً رأينا رمي العدد الأكبر من الفلسطينيين على لبنان في الستينات و تحويله الى “وَكرٍ’ لسلاح منظمة التحرير و بالتالي قاعدة متقدمة لها ما أدى الى اندلاع الحرب اللبنانية المعروفة و النتائج الكارثية التي أوصلت لبنان اليها ..
فمن تسهيل انتقال الفلسطينيبن المسلحين الى لبنان الى منع الدولة و جيشها من الحسم العسكري ضدهم و تهديدها بالمقاطعة العربية الشاملة الى اتفاق التنازل عن السيادة ( اتفاق القاهرة المشؤوم ) كان واضحاً أن هؤلاء و اعوانهم في الداخل يريدون تدمير النموذج اللبناني و دفنه و التخلص منه الى الأبد ..
بعض الأسئلة المشروعة لهؤلاء :
لماذا لم تسمح وقتها مصر أو سوريا مثلاً للفلسطينيين بالقيام بأعمال مسلحة من داخل اراضيها ؟؟ و لماذا سُمح للملك حسين في الأردن بالقضاء عليهم عسكرياً أو أقلّه تم غض النظر عنه ؟؟
لماذا لم تستقبل البلدان العربية نفس أعداد اللاجئين التي دفعوها نحو لبنان و لماذا لم يعطوهم عندهم نفس الإمتيازات التي أصرّوا على تحصيلها لهم في لبنان و حاصروا الدولة اللبنانية لتوافق على تأمينها ؟؟
من يكون العنصري هنا ؟ الذي استقبل النازح الفلسطيني لدرجة التنازل عن سيادة بلده له أم من تخلّص من هذا النازح و رماه في لبنان ثم عاد لاتهام اللبنانيين بالعنصرية عندما اعترضوا على تصرفات اولئك اللاجئين الشاذة ؟
نفس الكلام ينطبق طبعاً على المنظمات الدولية الخبيثة التي تاجرت و ما زالت تتاجر بقضايا اللاجئين و بدل أن تسعى لإعادتهم الى بلدانهم تعمل على دمجهم و اعادة توطينهم في البلدان التي لجأوا اليها ، كل ذلك لسبب واحد و هو الخوف من انتقال هؤلاء اللاجئين الى تلك الدول و التسبب بخلل ديمغرافي و اقتصادي داخلها ..
ما حصل في موضوع الفلسطينيين يحصل و بنسخة مشابهة في موضوع النزوح السوري اليوم ، من محاولات المنظمات الدولية الخبيثة لإعادة توطينهم في لبنان و دمجهم بالتالي بالمجتمع اللبناني بغض النظر عن الخلل الديمغرافي الخطير الذي سيحدثونه و الذي ربما يوصل الى حرب أهلية جديدة الى الاتهام الدائم المعتاد و الممجوج من بعض أو اغلب الجوار للبنانيين بالعنصرية و الذي لم يعد مقبولا ابدا و لم يعد جائزاً السكوت عنه لأن السكوت أصبح يوازي الخيانة لأنفسنا و تاريخنا و وطننا .
لماذا لا يتسقبل من يتشدقون باتهام اللبنانيين بالعنصرية ملايين اللاجئين السوريين و الفلسطينيين في بلدانهم و التي تستطيع استيعابهم اقتصاديا بعكس لبنان المنهك و التي أيضاً لا تعاني من نفس المشكلة الديمغرافية الطائفية الحاصلة في لبنان بسببهم ؟؟
لماذا لا يعملون على دمج هؤلاء النازحين في بلدانهم كما يريد البعض منهم أن يحصل في لبنان ؟ و من هو العنصري حقاً الذي استقبل عدد يوازي نصف سكانه أو أكثر من اللاجئين او الذي لم يسمح الا لعدد قليل من هؤلاء بالدخول الى أراضيه ؟؟
نحن في لبنان نراهن اليوم على النظام العربي الجديد الذي يقوده جيل شاب حضاري و منفتح كالأمير محمد بن سلمان في السعودية و حكام الإمارات و غيرها لتغيير هذا الواقع و انصافنا ، فمن يقودون ثورة التقدم الهائلة و الرائعة في بلدانهم حتماً لن يقبلوا بهكذا افتراء على اللبنانيين المنهكين و الذين لا حول لهم و لا قوة .
لا ، لبنان و اللبنانيين ليسوا بعنصريين ، بل العكس هم اكثر الشعوب انسانية و حضارة في هذه المنطقة و هم من تحملوا عن الجميع ما لا يمكن لأحد تحمله ، و لبعض من لم يواكبوا ثورة التقدم في العالم العربي و ما زالوا غارقين في أوهام الماضي نقول :
انتم لستم المرجع الصالح لاتهام اللبنانيين بالعنصرية ، عليكم أولاً التخلص من عنصريتكم انتم و الانتقال بعد ذلك الى التأقلم مع عصر الحريات و الإنفتاح الحضاري و الثقافي الآتي الى منطقتنا قبل اسداء النصح لمن سبقوكم تاريخياً في هذا المجال و بأشواط .
و اعلموا ان اتهامات بعضكم الفارغة لن تؤثر باللبنانيين المتعبين ، فهم خسروا كل شيء و لم يعد لهم ما يخسرونه سوى هذه الأرض لذا لن يفرطوا بها و سيواظبون على السعي لإعادة كل النازحين الى بلدانهم أو توزيعهم بعدالة على كل الدول المجاورة لأن هذا حقهم ، انه الحق بحماية وطنهم و تركيبتهم و خصوصيتهم كما تفعل كل الدول الأخرى .
لا يمكن لأرباب العنصرية اتهام الآخرين بها و لن تتحول اتهاماتكم الى حقيقة و أمر واقع حتى لو علا صراخكم و كثرت تهجماتكم الطائفية البغيضة من على منابركم الكثيرة ، فللتاريخ مسار واحد لن يستطيع أحد الوقوف في وجهه ، و مهما طالت ليالي الظلام و الباطل لا بد لشمس الحقيقة ان تسطع من جديد فبعد كل ليل طويل نهار و شمس مشرقة .