يُقال “ربّ ضارة نافعة”. فمع الأسى الذي يواكب صدور العدد الورقي الأخير لـ”نداء الوطن”، ثمة بارقة – نعم بارقة – تخرج من رحم أزمة الجريدة المالية. لا بل فرصة لنزع مرتدي العباءات الرمادية عباءاتهم وإبراز ألوان أكثر شفافية. وما أكثر هؤلاء ممّن أظهروا ويظهرون أن مفهوم “المنافسة الشريفة” حمل ثقيل لا يحتملوه.
قيل لي يوماً، شأني في سماع ذلك شأن الأغلبية الساحقة، إنها مهنة المتاعب. لكن “براءة” خوض التجربة أعمتني عن حقيقة أن فيها للشامتين والمصطادين بالماء العكر حيّزاً يفوق عمق رسالتها أحياناً… عمقاً؛ وقيل لي أيضاً إن الاختلاف بالرأي صحّي في معظم الأحيان لكن شخصنة الاختلاف عبثي في أحسن الأحوال. فكيف لساحة تكتظ بقادة فكر وقدوات ثقافة أن تعجّ بأقلام تنتقي لغة “الشماتة” انتقاءً؟
لست هنا في معرض الدخول في أروقة الأزمة المالية التي عصفت بـ”نداء الوطن”. لا بأسبابها ولا بخلفياتها. فللإدارة المالية أربابها، وليس هذا أصلاً من صلب مهام الهرم التحريري من رأسه إلى قاعدته. لكنني أتوقّف أمام مسألتين: “طوفان” التعليقات التي تحمّل رئاسة التحرير مسؤولية ما حصل تجاه كادر الجريدة والقرّاء سواءً بسواء؛ و”سيل” الكتابات التي يُشتمّ منها غاية لتأليب الزملاء ضدّ بعضهم البعض والتلميح إلى “بيع” القضية براتب لم يتمّ قبضه. أما الردّ الأنجع على هكذا محاولات فلا – ولن – يأتي إلّا بمزيد من التضامن والتكاتف بين المصوَّب عليهم.
على أي حال، “نداء الوطن” مستمرّة من أجل قرّائها. أنتم من آمنتم برسالتها وشهدتم، في السرّ والعلن، على مصداقيتها وشفافيتها. “نداء الوطن” مستمرّة من أجل كل مواطن لجأ إليها عارضاً قضية ولم تردّه خائباً. “نداء الوطن” مستمرّة بعرق جبين جنود معلومين ومجهولين – على الأرض وخلف المكاتب – تصدّوا لمخاضٍ عسيرٍ من لحظة ولادة لم ينجح المبغضون في إجهاضها إلى الآن. “نداء الوطن” مستمرّة برئاسة تحرير تمكّنت من (إعادة) فرض إسم الجريدة ومضمونها في فترة وجيزة وفي أحلك الظروف. ظروف أماطت اللثام عن أكبر عملية سطو على أرزاق الناس ونَكبَها تفجير قلب العاصمة النابض.
“نداء الوطن” مستمرّة من أجل كل مشترك أبى استرجاع حقوقه دعماً لقضيتها؛ “نداء الوطن” مستمرّة بحبر الكتّاب المصرّين على المواظبة دون مقابل وفاءً لمنبر احتضنهم وأحبّوه؛ “نداء الوطن” مستمرّة بدعم أهل الفكر الحر من شتى المشارب والانتماءات الذين أبدوا استعدادهم للمساهمة في المادة المُزمع نشرها على موقعها الإلكتروني. “نداء الوطن” مستمرّة بجهود كل من يدرس ملف تمويلها لغرض إعادة إطلاقها بكامل حلّتها. وهي مستمرّة بإرادتنا، نحن فريق عملها من أبنائها، والخلّص من الأبناء لا يخونون الأمانة.
فليطمئن المراهنون على تشتّتنا. التكاتف هو شعارنا. ونحن اليوم أشدّ صلابة من أي وقت مضى. فالشدائد مختبر أهل العزم. أما لمن يحاولون ممارسة الترهيب والتهويل والتحريض – بثّاً لإشاعات لا أساس لها من الصحة – نقول: الإجراءات القانونية ستُتابع حفظاً لحقوق الجميع. وللمفترين، لا يسعنا سوى إحالتهم لمذكرة داخلية فيها من التوضيح الشيء الكثير.
يوم اخترت الخوض في تجربة الصحافة، لم أخترها مهنةً، بل رسالة. والرسالة لا تميتها أزمة تمويل. أو تكبّلها شماتة. أو تقضي عليها خيانة. ففي هذه جميعاً فخرٌ لأقلام لم تزعزعها إغراءات. “نداء الوطن” ليست في حالة موت سريري كما يشتهي البعض. ومن يراهن على انطلاق رصاصة الرحمة عليها، فواهم. هي هدنة محارب. والمحارب لا يستكين حين تكون “القضية” مستهدفة.