توفر مسألتا اللاجئين السوريين، ومساعي انتخاب رئيس جمهورية جديد، مواد دسمة لمعظم مسيحيي لبنان، لتبني موقف معاد للغرب. ففي الأولى ينظرون له كـ»متآمر» عليهم، يسعى لـ»توطين الغريب»، عبر دفع الأموال للاجئين من خلال الأمم المتحدة، لتثبيت هؤلاء في لبنان، و»إحلال» مجتمع بدلاً عن آخر، في استعارة كاريكاتيرية لأدبيات اليمين الغربي. أما في الثانية، فيجدون انحرافاً للدور الفرنسي الداعم تاريخيا لهم، عبر فرض مرشح لا يحظى بتمثيل واسع، عدا عن قربه من محور «الممانعة»، المتهم من قبل عدد من الأحزاب المسيحية بالمسؤولية عن خراب البلد. وبين المؤامرة والفرض، تتصاعد لغة سياسية كارهة للغرب، على الضد من الموقع الذي طالما شغله مسيحيو لبنان، وتميزوا به عن بقية الجماعات، سياسياً وثقافيا. وهو، ما يستدعي طرح أسئلة حول طبيعة العلاقة بينهم وبين الغرب، وكيف ينظر كل طرف للآخر؟
الإشكال الأساسي، أن المسيحيين ينظرون للغرب نظرة ثابتة لا تتبدل تبعا لتغير الظروف التي تحكم الغرب ذاته. فما كان يصح قبل عقود، حين كانت دول غربية، معنية بالضغط على السلطنة العثمانية الضعيفة، لمنح الأقليات، حكما ذاتيا، تلتها محاولة لبناء دول، حظي المسيحيون في لبنان بحصتهم منها، لم يعد يصح الآن. فرنسا، التي ساعدت المسيحيين على منحهم وطناً، في بدايات القرن الماضي، منحت أيضاً العلويين والدروز في سوريا أوطاناً موازية (لم تستمر). ما يعني أن، المسألة لم تكن فقط تفضيلاً للمسيحيين على سواهم، بقدر ما كانت محاولة لترتيب المنطقة الخارجة من فوضى العثمانيين.
هذه الحقبة انتهت مع تصفية الدول الغربية لإرثها الاستعماري، حيث بات التعامل مع المسيحيين بوصفهم أقلية، مثل بقية أقليات المنطقة، كالأكراد والإيزيديين وسواهم، أي انطلاقا من ثقافة حقوقية غربية، تتراجع وتتقدم، أولويتها، ضمن مركب معقد من السياسة والأمن والاقتصاد، وتبعا لهوية الأحزاب الحاكمة في الدول الغربية، والسياسات التي تنتهجها. هذا التحول من مرحلة الانتدابات مروراً بما بعد الاستعمار، وصولاً إلى سياسات ليست خالية من اعتبارات السياسة والأمن والاقتصاد، لا يبدو أنه مدرك من قبل معظم المسيحيين اللبنانيين، الذين يستعيضون عن التعامل مع التحول وفهم ديناميكياته، بمنطقي المؤامرة والفرض. وفي حين أن الدول الأوروبية وكذلك أمريكا، معنية بتدبير «المؤامرة» عبر إبقاء اللاجئين السوريين وتوطينهم في لبنان، فإن فرنسا، معنية بالفرض، عبر دعم إيصال سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، بالضد من المزاج المسيحي العام المناهض له. إهمال المسيحيين، لتطوير وعي يلاحق نظرة الغرب لهم وللمنطقة، مرتبط بمسألة أكثر أهمية، وهي تراجع دورهم في لبنان، عدداً ونفوذاً وقدرة على إحداث تأثير. خلال الحرب الأهلية، اضطروا للانتقال من التجارب البرلمانية والسياسية، إلى العسكرة، وبعد الطائف عاشوا فترة مظلومية وغبن، نتيجة اتفاق وجدوا فيه، تقليصاً لصلاحيات أهم مناصبهم في الدولة، عدا عن اعتقال ونفي قادتهم. في تلك الحقبة، ورث رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، دورهم الاقتصادي، وصعّده نحو النيوليبرالية، كما ورث علاقاتهم مع الغرب بفعل صلاته الوثيقة والعائلية أحياناً مع قادة دول غربية. تصاعد سيطرة «حزب الله» عقب اغتيال الحريري وانسحاب الجيش السوري، دفع قسما منهم للتحالف بشكل انتهازي مع الميليشيا مقابل حصة من السلطة. وحالياً مع الانهيار ومشكلة اللجوء السوري المتروكة للاستثمار السياسي والتجييش، بدل المعالجة، تتصاعد هواجس المسيحيين أكثر، غير مدركين موقعهم الضعيف في النظام السياسي، الذي بات مفرّغاً من أي مضمون لصالح «حزب الله». والمفارقة أن الأخير، رغم خطابه التعبوي ضد الغرب، ورث عن المسيحيين وعن الحريري، دور التعامل مع الغرب، وهو ما تبدى، في تسهيله اتفاق ترسيم الحدود، وحالياً انسجامه مع مساعي باريس لدعم فرنجية. مقابل الإنكار المسيحي لمرور العلاقة مع الغرب بتعقيدات، يتداخل فيها الثقافي وحقوق الأقليات مع العامل الاقتصادي وهاجس الأمن والاستقرار، يقلص «حزب الله»، العلاقة مع الغرب، إلى صفقات وأوراق يقدمها للدول الغربية، في سبيل حماية صواريخه، مواصلا في الآن ذاته، هجاء الغرب ولومه، مورطاً المسيحيين في ألاعيب التحريض، التي كان آخر ضحاياها اللاجئين السوريين. فالحملة ضد هؤلاء بدأها محافظ بعلبك المحسوب على محور الممانعة، لتنخرط فيها بقوة القوى المسيحية، التي وقعت في فخ الميليشيا، التي تصادر كل شيء في لبنان، بما يشمل العلاقة مع الغرب، وتقدم اللاجئ الضعيف المسلوب الحقوق، كبديل علاجي للمسيحيين، ومادة لـ»تنفيذ مؤامرة» ضدهم، ينسجها الغرب، الذي يتعرض للابتزاز من قبل «حزب الله» بأوراق الغاز والأمن وغيرها.
ايلي عبدو – كاتب سوري – الخبر من المصدر