لم يَعُدْ خافياً أن المواجهاتِ على الجبهة اللبنانية – الإسرائيلية تتطوّر في اتجاهاتٍ أكثر التهاباً، كمياً ونوعياً، على وقع مؤشراتٍ ميدانية في «ملعب النار» الأساسي في غزة يُشتمّ منها أن التصادمَ الكبير مع «حزب الله» خَرَجَ من دائرة «المستحيل» وأن هذا الاحتمالَ لم يُسحب عن الطاولة.
وإذا كانت أقوى إشاراتٍ إلى أن تل أبيب «تضع الإصبع على الزناد» على جبهتها الشمالية عبّر عنها الإعلان عن أن «بعض القوات التي انسحبتْ من غزة ستتموضع على الحدود مع لبنان»، فإن الخشيةَ التي سادت في الأسابيع الأخيرة من العام 2023 من أن تلجأ اسرائيل إلى مباغتة حلفائها قبل أعدائها بحربٍ واسعة على «حزب الله» تعزّزت في الساعات الأولى من سنة 2024 على وهج وقائع عسكرية بارزة جنوباً تُلاقي مناخاً سياسياً يعكس حساباتٍ اسرائيليةً على «المقياس» الوجودي تتحكّم بكل ما قامت به منذ «طوفان الأقصى» وقد تَحْكم مقاربتها لكيفية التعاطي مع «الخطر العالي» الذي يشكّله الحزب بعيداً من مجرد «إدارة المخاطر».
وجاء كلام وزير الدفاع الاسرائيلي يوآف غالانت أمس، عن أنه «من دون انتصار واضح، لن تستطيع إسرائيل العيش في الشرق الأوسط» وتأكيده «أن القوات الاسرائيلية ستبقى على الأرض في غزة لفترة من الوقت حتى تحقيق الأهداف» ليزيد المخاوفَ من أن تل ابيب قد تجد نفسها وفق هذا «المعيار» أمام الحاجةِ إلى مقاربةٍ أكثر جذرية للحلول الممكنة على الجبهة الشمالية التي تُستنزف فيها عسكرياً كما اقتصادياً وصولاً إلى البُعد الأعمق لنزوح نحو 230 ألف مستوطن نتيجة ضربات «حزب الله»، من دون أن يكون ممكناً ضمان عودتهم بما هو أقل من «بوليصة تأمين» حدّدت تل ابيب عنوانها بـ «جنوب الليطاني خالٍ من حزب الله» وقوة النخبة فيه (الرضوان) والترسانة الثقيلة.
وعلى صعوبة تَصوُّر تحقيق هذا «الهدف»، سواء «على البارد» في إطار «اتفاقٍ بَري» برعاية «عرّاب» الترسيم البحري الموفد الأميركي أموس هوكشتاين، وهو ما يحتاج إلى جولاتٍ من التفاوض الذي يشتمل على نقاط حساسة مثل مصير مزارع شبعا المحتلة ومن دون أي ضماناتٍ بأن يعطي «حزب الله» مقابله «أثماناً» ولو منصوص عنها في القرار 1701، أو «على الساخن» عبر حربٍ لفرض إبعاد الحزب إلى شمال الليطاني، فإنّ هذا لا يُسْقِط بأي حال أن اسرائيل صارت أمام خيارات «أحْلاها مُرّ» بإزاء «تفكيك المعضلة» على جبهتها الشمالية.
على أن أوساطاً سياسية تُبدي اقتناعاً أيضاً بأن «حزب الله» بفتْحه «مواجهات المشاغَلة» من جنوب لبنان «دخَل برِجليْه» إلى ما قد يسرّع «هدفاً» اسرائيلياً – أميركياً كان لاحَ عند التمديد الأخير لقوة «اليونيفيل» وأثار ارتيابَ الحزب ويقوم على نزْع آخِر الذرائع من أمام استمرار تموْضعه جنوباً ووضعيته خارج الشرعية وذلك عبر بتّ كل النقاط الخلافية على الخط الأزرق بما فيها الـ «B1» (رأس الناقورة) وإيجاد صيغة لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا على قاعدة وضعها في عهدة الأمم المتحدة، بما يُبْقي الحزب «مشكلة لبنانية» ويحيي إشكالية سلاحه.
وعلى وقع هذه الخطوط العريضة لحسابات الميدان والسياسة، ارتسمت استراتيجية عسكرية اسرائيلية في جنوب لبنان تقوم على «مطاردةٍ» لعناصر «حزب الله» الذين لا يكاد يوم يمرّ من دون أن تنجح في ما يبدو «اغتيالات» لعدد منهم من خلال غاراتٍ دقيقة الإصابة، وذلك من ضمن محاولاتٍ مستمرة لرفع مستوى التوتر وخرق «قواعد الاشتباك» وجرّ «حزب الله» إلى «الطلقة الأولى» الحارقة للخطوط الحمر الكبرى.
وبدأ الاستهداف المتمادي لعناصر من الحزب يثير علامات استفهام في اتجاهين:
– الأول كيفية نجاح اسرائيل في هذه العمليات الأمنية – العسكرية، التي أودت أول من أمس، بثلاث عناصر نعاهم الحزب وسقطوا في كفركلا، وسط اقتناعٍ لدى دوائر قريبة من «محور الممانعة» بأن تل ابيب «التي سبق أن خرقت شبكة الاتصالات في لبنان ويُعتقد أن«لها يد»على داتا الاتصالات باتت قادرة على فك شيفرات دقيقة في هذا المجال، ناهيك عن التقدم الكبير الذي أظهرته في برامج التجسس الذائعة الصيت».
– والثاني «الإجراء المضاد» من «حزب الله» لكسر هذه الحلقة من الاستهدافات والذي لا يُستبعد أن يكون بدأ بعدما حدّد الحزب «نقطة الضعف»، هو الذي كان قام قبل أيام قليلة بإصدار بيان بدا أقرب الى الرسالة لاسرائيل بأن «جاسوسَك كُشف» ودعا فيه سكان البلدات الحدودية في جنوب لبنان لتعطيل كاميرات المراقبة في منازلهم ومتاجرهم سعياً «لإعماء العدو الإسرائيلي» بعدما عَمَدَ إلى «اختراقها للاستفادة منها في جمْع معلومات تتعلّق بالمقاومة وحركة الإخوة المجاهدين لاستهدافهم»، وحض الأهالي على فصلها عن الإنترنت.
وفي سياق «رفْعه التحدي» مع اسرائيل، استوقف الدوائر نفسها أن الحزب كثّف استخدام المسيّرات الانتحارية المحمّلة بالمتفجرات والتي يمكنها بلوغ الهدف بدقائق ومن دون أن تكون «على رادار» الرصد وتالياً لا يمكن إسقاطها.
وقد أعلن «حزب الله» أمس، انه نفّذ «هجوماً جوياً على مقر القيادة 91 المستحدث للعدو الاسرائيلي في إيليت بمسيَّرة انقضاضية وأصابت هدفها بدقة»، بالتوازي مع عمليات أخرى استهدفت «تجمعاً لجنود العدو الإسرائيلي في ثكنة زرعيت بالأسلحة المناسبة، ووقع أفراده بين قتيل وجريح» وموقع بركة ريشا و«موقع السمّاقة في مزارع شبعا اللّبنانيّة المحتلّة بالأسلحة الصاروخيّة» و«تموضعاً لجنود العدو في محيط موقع المرج بالأسلحة الصّاروخيّة».
وأفادت القناة 12 الإسرائيلية بأنه تم «إطلاق عدة صواريخ من لبنان باتجاه شلومي في الجليل الغربي من دون تسجيل إصابات» فيما تحدثت وسائل إعلام عن «تضرر منزل في«شلومي» بصاروخ مضاد للدروع أطلقه حزب الله صباح الثلاثاء».
في المقابل، استهدف الجيش الإسرائيلي منزلين بصاروخيْ مسيَّرة على الاطراف الجنوبية الغربية لبلدة بليدا، بعدما كانت طائراته الحربية نفذت صباحاً غارتين متتاليتين على المنطقة الواقعة بين مدينة بنت جبيل وبلدة مارون الراس، ملقية أربعة صواريخ جو – ارض على المنطقة المستهدفة، فيما طاول القصف المدفعي منطقة تلال سدانة بين شبعا وكفرشوبا وأحراج اللبونة ووادي حامول في خراج الناقورة، وعلما الشعب والمنطقة الواقعة بين الضهيرة والجبين، وسط تقارير عن ازدياد حركة النزوح من القرى الجنوبية الحدودية ما ألقى بثقله على ادارة الكوارث الطبيعة في اتحاد بلديات قضاء صور بسبب قلة الامكانات.
لوكورنو وبوريل
في موازاة ذلك، وفيما تستعدّ بيروت لأن تستقبل بعد غد أول مسؤول غربي يزورها في 2024 وهو الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي ونائب رئيس المفوضية الأوروبية جوزيب بوريل (يصل مساء الجمعة ويجري لقاءاته السبت)، برزت محطة وزير الجيوش الفرنسية سيباستيان لوكورنو في لبنان، حيث تفقّد أول من امس، قاعدة دير كيفا في الجنوب وأجرى محادثات مع رئيس أركان الجيوش والجنود الفرنسيين المنتشرين ضمن «اليونيفيل».
وأعلن لوكورنو أمام 700 جندي قبل أن يشاركهم عشاء لمناسبة رأس السنة، أن «هذه المهمة يمكن أن تصبح خطيرة جداً».
وأضاف تحت خيمة نصبت في القاعدة على بُعد نحو عشرة كيلومترات من الحدود بين إسرائيل ولبنان «سيكون دربنا مزروعاً بالشكوك في الأسابيع والأيام المقبلة».
وبعدما كان بحث مع قائد الجيش اللبناني العماد جوزف عون مهمة «اليونيفيل» و«كيف يُمكن الاستمرار في ممارسة المهمة في ضوء أوضاع متدهورة وكيف نحمي الجيش اللبناني وعناصر اليونيفيل في مهامهم»، عاد لوكورنو والتقى عون أمس خلال زيارته المستشفى العسكري في بيروت، وسط تقارير نقلت عن مصدر قريب من وزير الجيوش الفرنسية أن باريس التي قدّمت 15 طناً من المساعدات الطبية دعماً للجيش اللبناني خلال الشهرين الأخيرين تعتزم زيادة التعاون الصحي من خلال برامج هيكلية.