لم تَعُدْ أغنيةُ السيدة فيروز «ايه في أمل» من النوع الذائع الصيت، وربما هي الأقلّ تَداوُلاً بين روائع سفيرة لبنان إلى النجوم بعدما ضاقتْ السبل باللبنانيين وتَدَهْوَرَتْ أحوالهم وتبخّرت أحلامهم أمام سيْلٍ من الأهوال.
ولم تَعْدْ ظاهرة الهجرة الأقرب إلى «الفرار» مجرد طفرة، فالمقيمون في الوطن الذي كان يوماً ملعب أحلام إما عيْنهم على الهجرة من «أرض الكوابيس» وإما يبْحثون عن جنسيةٍ أخرى كأنها «بوليصة تأمين» من الآتي… المخيف.
ومن المفارقات الموجعة التي صارت كـ «الموضة» أخيراً انتشار عملية البحث عن جواز سفر ثانٍ في صفوف اللبنانيين بعد تقهقر حال الباسبور اللبناني ومَصاعب الحصول على فيزا للانتقال إلى هذا البلد أو ذاك.
فبعدما بات جواز سفره من بين الأضعف عالمياً وصار الحصول على تأشيرة دخول إلى بلدان العالم معاناةً تتطلب الصبر، لم يتأخّر اللبناني في «التكيف» مع هذه المشكلة والسعي لابتكار حلّ لها، كما تعوّد أن يفعل كلما عصفت ببلاده الأزمات.
الحل لم يتأخر… جنسية أخرى تخوله الحصول على جواز سفر عالمي الملامح أو إقامة ذهبية في بلد أوروبي تعفيه من عناء انتظار الحصول على تأشيرة.
حلمٌ بدأ أخيراً يتخذ طابعاً جَماعياً، وقد وحّد اللبنانيين وكل مَن يسكن على أرضهم حول هدف واحد: سهولة التنقّل بين البلدان دون إذلال وانتظار أو رفْض وعراقيل. لكل أسبابُه الخاصة للسعي وراء جنسية أخرى.
ومع تَلاحُق الأزمات في لبنان تَضاعَفَتْ طلبات الحصول على برامج تُعرف باسم «الإقامة مقابل الاستثمار»، ونمت نتيجة ذلك الشركاتُ التي تعنى بتسهيل طلب الحصول على جنسية ثانية أو إقامة ذهبية. ومَن يمرّ على طرق لبنان الرئيسية، أو يقوم بجولة على مواقع التواصل الاجتماعي يلمس كمية الإعلانات التي تُطلقها هذه الشركات لتعريف الناس بهذه البرامج وترغيبهم بها بعدما بات جواز السفر اللبناني يحمل المرتبة 98 عالمياً وفقًا لمؤشر Guide العالمي لسنة 2023.
مشاهير لبنان لم يغيبوا عن هذه «الموضة»، بل أنهم بدأوا الترويج لها وهذا ما أثار ردات فعل غير مرحِّبة بين متابعيهم. فالممثلة نادين نسيب نجيم مثلاً عرضت جواز سفرها الكاريبي على صفحتها الخاصة على إنستغرام للدلالة على كونها استخدمتْه في عطلتها في جزر المالديف.
ولم يشكل الأمر أي إحراج لها بل انه سهّل سفرها، فيما وجد بعض متابعيها أنه من غير الجائز أن تُفاخِر بامتيازاتٍ خاصة مَنَحَها إياها باسبورها غير اللبناني.
لكن على غرار نادين نجيم كثر من المواطنين اللبنانيين باتوا يتغنّون بحصولهم على جواز ثانٍ، كما صارت برامج الاستثمار العقاري مقابل الإقامة أمراً شائعاً جداً وتضاعَفَ الإقبالُ عليها مرات.
«الدول الكاريبية التي لديها هذه البرامج لم تصدّق عدد الطلبات التي وردتْها من لبنان»، يقول جاد خوري صاحب شركة My Pass «فهو العدد الأعلى نسبةً إلى عدد سكان البلد وقد تقدّمنا بالنِسب على العراق، ولذلك تقدم هذه الدول كل الدعم والتسهيلات للشركات لتسهيل عملها».
الشركات التي تعمل ضمن الأراضي اللبنانية، هي في غالبيتها شركات موثوقة معتمَدة من الدول الكاريبية، ولكن هذا الأمر لا يمنع ظهور بعض الأفراد من الطارئين أو غير المزوَّدين باعتمادٍ رسمي في هذا المجال، ومن هنا ضرورة التأكد من الشركة التي يتعامل معها «طالِب القُرب» من بلدٍ ما قبل البدء بالمعاملات.
البرامج باتت معروفة وهي في شكل عام، وفق ما يقول خوري تندرج تحت فئتين: الأولى هي الاستثمار العقاري مقابل الحصول على إقامة طويلة الأمد في أوروبا، والثانية الحصول على جنسية ثانية من إحدى دول البحر الكاريبي مقابل التبرّع بمبلغ للحكومة.
هذه البرامج موجودة منذ العام 1993 وكان الشرق الأوسط من أبرز أسواقها بسبب تَهافُت رجال الأعمال في هذه البلدان على الحصول على جوازات سفر تسهّل تنقلهم بين دول العالم وتالياً تسهّل أعمالهم.
وسابقاً كان الذين يتقدمون إلى هذه البرامج هم من فئة المقتدرين مادياً، أما اليوم فقد زاد في شكل كبير إقبال الطبقة الوسطى من اللبنانيين على الحصول على جنسية أخرى.
إضافة إلى مواطنين فلسطينيين وسوريين وعراقيين مقيمين في لبنان يسعون إلى باسبور ثانٍ قد يكون جواز مرورهم إلى حياة أفضل بعيداً عما يعانونه إما من تشرُّد وإما مشكلات قانونية.
تختلف التقديمات من برنامج إلى آخَر وكذلك الكلفة. ففي أوروبا لا يمكن إعطاء الجنسية، بل ما يتم منحه هو إقامة طويلة الأمد أو دائمة تسهّل على حامليها التنقل بين الدول الأوروبية كما تسهّل عليهم الدراسة والعمل والاستثمار.
ويمكن الحصول على الإقامة مقابل استثمار مبلغ معيّن يراوح بين 250 ألفاً و500 ألف دولار لشراء عقار أو وحدات سكنية في مشاريع موافَق عليها من الدولة المعنية.
وتُعتبر قبرص واليونان والبرتغال وحتى إسبانيا وإيطاليا من الدول التي تقدم الإقامة على أراضيها للمستثمرين.
وثمة برامج في بعض الدول تتيح للمستثمرين التقدم للحصول على الجنسية بعد خمس سنوات، وفق شروط معينة.
الدول الكاريبية وهي دول تابعة للكومنولث البريطاني تقدّم جنسيتها مقابل التبرع لحكومة البلد بمبلغ قدره 100000 دولار ومن ثم يمكن للحائز على الجنسية الحصول على جواز سفر يؤهّله الدخول الى 148 دولة من دون الحاجة إلى تأشيرة، ومن بينها دول أوروبا إضافة إلى روسيا والصين ودول أميركا الجنوبية، وهذا حلم بالنسبة إلى اللبنانيين بسبب كل ما يعانونه من صعوبات في الحصول على تأشيرات.
ويقول خوري: «نحن كشركة نصغي إلى احتياجات الشخص ونوجّهه نحو البرنامج الأنسب له ولعائلته والدولة التي تناسب تطلعاته ونساعده في إعداد ملفه».
«الراي» رافقتْ مشوار أحد الأشخاص وعائلته للحصول على جواز سفر من جمهورية الدومينيكان وتعرفت بالتفاصيل على متطلبات الحصول على جنسية ثانية.
زياد مواطن فلسطيني وُلد ونشأ وترعرع في لبنان، لكن بموجب القوانين اللبنانية فإنه يحصل على وثيقة سفر لا جوازاً بالمعنى الحقيقي كما لا يحقّ له التملك العقاري في لبنان.
والوثيقة هذه تجعل السفر والدخول إلى أي بلد آخَر عملية صعبة قد تُواجَه بالرفض أحياناً. «حصولي على جواز سفر ثانٍ كان بمثابة ولادة جديدة لي وكأنني عصفور خرجت من القفص»، يقول زياد.
كان قد سمع بهذه البرامج في وقت سابق حين كان في تركيا، فأراد التقدم بطلب لكنه تَعَرَّضَ لعملية غش كبرى فخسر ماله وحلمه بالحصول على جواز سفر… لكنه لم يستسلم، ففي بيروت ومع انتشار الإعلانات عن الشركات التي تعنى بهذه الخدمة تعرّف صدفة إلى إحداها. وبعد الاستعلام عنها قرر المغامرة من جديد لا لنفسه فقط بل لزوجته وأبنائه الخمسة.
ويضيف زياد: «حين بدأت الإعداد لملفي طُلبت مني معلومات صحية ومالية وأمنية عني ترتبط بوضعي الخاص ووضع كل أفراد عائلتي.
أعطيتُ كل التفاصيل المطلوبة دون الكذب أو الغش في أي منها.
استغرق الأمر بعض الوقت لإنجاز الفحوص الطبية وتأمين كشف حساب من المصرف للتأكد من كوننا قادرين على دفع المبلغ المطلوب.
كان عليّ بداية أن أدفع 7500 دولار عني شخصياً كمقدّم للطلب و4000 عن زوجتي وعن كل ولد فوق الثامنة عشرة أما مَن هم تحت هذه السن فمجاناً.
وهذا المبلغ يُدفع من أجل تحقيق الإنتربول الذي هو الخطوة الأساسية في درس الملف.
فالدولُ الكاريبية تسعى في شكلٍ جدي جداً للتأكد من طالبي الجنسية ومن ملفّهم الأمني، وقد ترفض أي شخص تحوم حوله أي شبهةٍ أمنية أو مالية.
وبالنسبة إلينا كفلسطينيين، فإن إدارتَنا الأمنية في الأردن، ولذا تم الاتصال بي من هذه الجهات والتأكد من كل المعلومات التي أدليتُ بها. وحصل اتصالٌ حتى بصاحب العمل حيث تعمل ابنتي للتثبّت من أوضاعنا جميعاً.
وكان عليّ أن أسجّل أرقام وعناوين كل أقاربي للتأكد أيضاً من خلفيتي العائلية.
فهذه الدول التي تحترم نفسها لا تودّ أن تصبح ملجأ للمطلوبين. حين رأيتُ كمية الوثائق المطلوبة نسبةً إلى ما حصل معي في تركيا تأكدتُ أن العملية شرعية وموثوقة تماماً».
كل الوثائق المطلوبة يتم إرسالها إلكترونياً على شكل pdf وتتولى الشركة في لبنان لقاء مبلغ لا يتعدى 1500 دولار التحقق من الوثائق بأدق تفاصيلها ومساعدة أصحابها ليكون كل شيء صحيحاً وخالياً من الأخطاء حتى لا يتم رفض الطلب.
ويقول زياد: «حين تجمّعتْ كل المعلومات المطلوبة قدّمنا الملف، وبعد ثلاثة أشهر جاءتني الموافقة وطُلب مني تحويل مبلغ 100 ألف دولار عنا جميعاً إلى الحساب الرسمي لدولة الدومينيكان.
وكنتُ مازلت خائفاً وغير مصدّق. والأمر ذاته بالنسبة إلى أفراد عائلتي حيث كانوا مشكّكين بإمكان حصولنا على الجوازات.
لكن بعد ثلاثة أسابيع على تحويلي للمبلغ وصلتْني شهادات الجنسية لي ولعائلتي وصرتُ بذلك مواطناً في الدومينيكان وصار يحق لي التقدم بطلب جواز سفر وبعد أسابيع حصلنا كلنا على جوازاتنا واحتفلنا وقطعنا قالب حلوى في المناسبة».
انفتحت الآفاق أمام زياد وعائلته وكُسرت الحواجز.
لكن الشك لم يفارقهم حتى استخدَم زياد جوازَه الجديد للسفر إلى دولة خليجية قاصداً أخيه من دون الحاجة إلى فيزا أو أي أوراق… “وهكذا تَحَقَّق الجميع من قوة هذا الباسبور وقدرته على إدخالنا إلى 148 بلداً».
قصة مشابهة يرويها حسين الذي حصل على جواز سفر من جمهورية سانت كيتس أند نيفيس وهي إلى جانب أنتيغا أند باربودا، الدومينيكان، سانت لوشيا وغرانادا من الدول التي تمنح جنسيتها لقاء تبرع بمبلغ مالي إلى حكوماتها، ويمكن التعرف إلى برامجها عبر مواقعها الرسمية على الإنترنت.
ويقول: «أكثر ما فرحتُ به أنني أمّنت الجنسية لأولادي وصار بإمكانهم إعطائها لأولادهم فيما بعد.
لقد أمّنا حرية التنقل بلا قيود، وكوني رجل أعمال أقصد الصين غالباً وبلداناً كثيرة، فالأمر كان مُلِحّاً والمبلغ الذي دفعتُه يُعتبر زهيداً بالنسبة إلى الحرية التي يوفّرها لي ولعائلتي هذا الجواز من دون أن أضطر لمغادرة لبنان أو استبدال مقر عملي وسكني.
إنه حلم تَحَقَّقَ ولا أشعر بالخجل مطلقاً لشرائي جواز سفر آخَر، فأنا مواطن لبناني أعشق بلدي وأرض أجدادي لكنني أفتّش عن حل بديل كما فتّشنا عن بدائل بعدما فشلنا في تأمين حلول لأبسط الأشياء كالكهرباء والمياه وغيرها…».
طوني الذي استثمر في اليونان في مشروع عقاري، مرتاحٌ الى وجوده مع عائلته هناك ولا سيما ان ابنيه ملتحقان بإحدى الجامعات اليونانية لكنه يشكو من الضرائب الكثيرة التي تفرضها الدولة على عقاره كما كل العقارات ومن مصاريف الصيانة للشقة التي اشتراها.
ويقول: «رغم ذلك كنت محظوظاً وأخرجت أموالي من أحد المصارف اللبنانية واستثمرتُها في اليونان في شكل يعود عليّ بمردود مادي ومعنوي.
فأنا وعائلتي نعيش ونتنقل في أوروبا بلا قيود، وما أحصّله من إيجارات من استثماري يشكّل مصدرَ دخلٍ لنا، ويمكنني بيعه في ما بعد متى انتفتْ الحاجة إليه”.