في دير سيدة ميفوق يمضي ما تبقى من العمر «فالموت يقترب واللقاء مع يسوع سعادته». هو من الرهبان الذين وثقوا طوال العمر بأن من شاهد الحق وعاينه ولم يشهد له، فكأنه لم يشاهده ولم يرَه. الشهادة للحقّ لازمته، كما الظلّ، وكبُر في عالمٍ معقود بين حبّ ونيران، بين سلام منشود وحرب منصوبة، وبين بعدين زمني وروحي. فما حكاية هذا الراهب الذي يُحرّك إسمه شجون الكثيرين؟
متكئاً على ذخيرة 93 عاماً، لاقانا في صالون دير ميفوق، أصرّ علينا أن نتناول الغداء، وأبى أن ننطلق في حوارنا معه من دون لقمة طعام صنعها لنا بحبّ. ممسكاً بمسبحته دائماً، وبدفتر صغير يُدوّن عليه كل الملاحظات اليومية، دقيقة بدقيقة، وثانية بثانية، ومن التفاصيل الصغيرة تبنى الأحداث الكبيرة. نجلس على يساره، بالقرب من الأذن التي يسمع بها، ونبدأ في الحديث عن الرهبنة وميفوق ويسوع والمقاومة المسيحية وسيدة إيليج وبشير (الجميل) وسمير (جعجع) وشارل (مالك) وكميل (شمعون) والحياة والموت والإضطهاد والقيامة.
متواضع جداً هذا الراهب المقاوم. يمرّ أحدهم مسرعا فيستأذنني: نوال حبيبتي ربما أستطيع أن أقدم له خدمة. ويسرع، بقدر ما يسمح له عمره، إليه. هو إبن مهنا من بلدة إده. والده أراد بعد أن تزوج دخول الكهنوت، فذهب الى دير مار يوحنا يعقوب، حيث كانوا يعدون الكهنة الموارنة، والتقى مديره الاب يوحنا العنداري الذي قال له: يا ابني يا روحي أنت تزوجت، ولديك كثير كثير من المسؤوليات، والكهنوت مسؤولية إضافية، لذا، أتمنى عليك أن تحمل بطيخة واحدة جيداً بدل أن تحمل اثنتين وتتعب. يخبر أبونا مهنا ذلك مبتسماً للتاريخ والذكريات والنصيحة والمسار مضيفاً «هو الروح القدس يقودنا في هذه الحياة. والدي ربانا، ونحن تجلى فينا توقه لدخول الكهنوت، فدخلت عام 1948 الرهبنة مع شقيقي الأب غسطين (يصغره بعشرة أعوام) وثلاث من «خياتي» هنّ جنفياف وكاترينا وأمانة دخلن الدير أيضا وأصبحن راهبات. خالتي، شقيقة والدتي، راهبة أيضاً وصوتها جميل جميل كم كنت أحبها. كانت في دير ماريوسف جربتا.
الراهب الدكتور… المسافر
هل قرار دخول الرهبنة كان سهلاً؟ يضحك قائلاً: حصل ذلك من زمان. دخلت الرهبنة في صف الاول متوسط. كان أبي وأمي قديسين. كانا يتناولان الخبز والزيت. نلتُ الدكتوراه في علم الفلسفة في روما، وذلك بين العامين 1958 و1962، وموضوع أطروحتي كان «الجانب المعرفي للحقيقة لدى إبن سينا». وظهر ميلي نحو الماورائيات «الميتافيزيقيا». كنت أبحث دائما عن الحقيقة. بقيتُ في روما ثلاث سنوات ونصف السنة. وكنت أنتقل الى ألمانيا أو فرنسا في الصيف لتأمين الخدمة بدل كهنة الرعايا الذين يأخذون إجازة. أمضي الصيف هناك فلا أدفع لهم ولا يدفعون لي». يتمهل قليلاً كأنه تذكر شيئاً. ينظر إليّ. ينظر من الشباك الى السماء ويقول: لبنان أجمل الدول. هذا اللبنان ليس له مثيل يا نوال. يجوز أن يحدث فيه ما حدث؟».
دخل هو الى العالم الذي أحبّ، حيث أصبح أكثر قرباً من السماء ويسوع. ويقول: الإنسان لديه بعدان أو إطاران: البعد الزمني le passage الذي لا يعي فيه الأمور بسهولة. وإذا كان لديه إيمان مسيحي حقيقي يكتفي من خلاله بالضروري في الإطار الزمني ويهتم في التطلع نحو الإطار الآخر الأبدي. أنا اصبحتُ اليوم في الإطار الأبدي. وأنا عارف أنني ذاهب الى الموت الجسدي سواء أكانت صحتي جيدة أم لا، ناجحاً كنت أم لا، غنياً أم فقيراً. كلنا نمرّ في هذه الحياة مرور المسافر. فلماذا نغش بعضنا البعض؟ بدنا الخلاص. وفي مسيرتي نحو الأبدية يفترض أن أكون سعيداً لا حزيناً. لكن، من يبقى في الإطار الزمني، يحيا تعيساً، ربنا اعطى الإنسان ليميّز بين الخير والشرّ. خلقنا غير آلهة. لدينا نقص وحين تقولين عن أحدهم ناقصاً معناه عنده شرّ. عنده حاجة. قال لآدم لا تأكل من هذه الشجرة فأكل. حواء أكلت وأطعمته. وحين سمعا صوت الله إختبآ. فقال لهما: أكلتما من الشجرة؟ طردهما من الجنة الى الأرض. وقال لهما: لن أدينكما فهناك خلاص».
هناك خلاص ومار شربل موجود. يجب أن يتجنب الإنسان الخطأ والخطيئة. وله حرية إختيار الخير لا الشرّ. ننصت إلى صوته الخافت المحمّل بأبعادِ المحبة فينشلنا للحظات من واقعنا المحيّر ويجذبنا نحو الروح. ونتابع الإنصات إليه يروي نتفاً من سيرة مثمرة «كنت رئيس دير مار شربل نحو تسع سنوات. ولاحقا، في العام 2007، عينوني مرشدا لراهبات تولا. حبيبتي نوال منذ دخلت عالم الرهبنة «مش فايق» أنني ترددت أو شذّيت عن النظام اليومي في كل حياتي. الإنسان الناقص يشذ. في عنايا أخذت الحلة بأن الناس شركاء ولهم اراضيهم وبيوتهم. لكن، لم يطبقوا القرار حتى اليوم. الناس «صعبين». الرهبان أيضاً. والحياة، بمجملها، صعبة».
لبنان المنشود
ذهبتُ الى العراق. طلبوني الى هناك بين عامي 2007 و2013. علّمتُ في كلية بابل للكنيسة الكلدانية الكاثوليكية. وأمضيتُ 22 عاما في جامعة الكسليك وأسستُ فيها كلية الفلسفة والعلوم الإنسانية في فروعها الأربعة. وهناك، في الكسليك، كان يجتمع سبعون او ثمانون شخصاً يمثلون كل الأحزاب المسيحية. هناك مسلمون كانوا معنا روحياً. كنت سكرتيراً (أمين السر) هناك، أتابع أدق التفاصيل، ومعي أربعة أو خمسة مستشارين بينهم الشيخ وليد الخازن وخيرالله غانم. شكلنا لجنة أنا سكرتيرها. نأخذ فحوى إجتماع ممثلي الاحزاب والقوى المسيحية وننشئ كراريس (كتيبات) بها. كل الأحداث الموصوفة ضميناها في 45 كراساً. كل الخطط والإستراتيجيات موجودة فيها».
ماذا ضمّت تلك الكراريس عن إجتماع القوى المسيحية في الكسليك؟ يجيب «لبنان المتميز والمثال المنشود. وانظري (يقولها بحسرة) أين وصلنا. في اجتماعاتنا كان سعيد عقل وشارل مالك وفؤاد إفرام البستاني وكميل شمعون وجواد بولس وأنطوان نجم وإدوار حنين وروبير(عبده) غانم ونسيب طربيه وسعيد البستاني وابراهيم نجار وبيار الجميل… كان إجتماع اللجنة العليا مع الرئيس العام، إنطلقتْ مع الأب شربل قسيس وانتهت مع الأب بطرس قزي ثم الأباتي بولس نعمان. وكنت مدبراً مع الأب نعمان. كنا رفاقاً في الطالبية. إلتقيتُ الأباتي نعمان منذ فترة هو مريض اليوم. شربل قسيس كان راهباً مقداماً وبطرس قزي كان قديساً. حياته حياة قداسة. لم يجرح أحداً في حياته».
إجتماعاتنا كانت تطرح كل القضايا المصيرية، قضايا المسيحيين المصيرية، وكانت تجرى أسبوعيا. ويحصل النقاش حول لبنان وكيف يرونه وكيف يفترض أن يكون. وكيف كانوا يرونه؟ يجيب: «كنا نراه موحداً. بلد الحضارة والتفاهم بين مسيحييه ومسلميه لكنه في الاساس بلد مسيحي على أن نتفاهم مع المسلمين. مصيبتنا في الأساس هي العقائد الإسلامية التي ولدت لاحقاً. ويستطرد: هل قليل ما فعلته بنا سوريا ونسمع اليوم أنها قد تعود. وإيران أصبحت هنا أيضاً. يومها لولا مقاومة الكسليك لكان لبنان طار».
ماذا عن المقاومة المسيحية؟ يجيب «قاوم المسيحيون ولولاهم لما كنا بقينا. والآن معرضون للزوال من جديد. كنا، نحن الرهبان، نساعد المقاومة المسيحية. يأتون بالسلاح الى الكسليك ونوزعه من عندنا. كنا بحاجة الى الدفاع عن الوجود المسيحي وشاركنا بذلك وانتصرنا. نعم إنتصرنا. لكن، ما حدث لاحقاً أن هناك من خرجوا عن الخط. فتشوا عن مصلحتهم بعدما هدأت الأحوال. وها قد وصلنا الى ما وصلنا إليه. كان على هؤلاء أن يقولوا: لا مش ماشي الحال منذ ذاك الحين. كلهم إستسلموا ولم يقولوا ذلك. وحدث ما حدث».
سؤال عن مار شربل
كم هي الكنيسة اليوم قريبة من ناسها؟ يجيب «لا تسأليني لا أعرف». لستَ راضياً تبدو؟ لا تسأليني. يوم كنت رئيس دير عنايا كان البطريرك بشاره الراعي مطراناً في جبيل. البطريرك مار نصرالله بطرس صفير كان يقاوم بحكمة. الله يرحم روحه. نحن حياتنا ليست مثل حياة القديس شربل الذي كان على مساحة كل العالم. حين كنت رئيس دير مار شربل كانت تصلني مكاتيب من 184 دولة صنع فيها القديس شربل عجائب. هناك أناس كتبوا عن شفاءاتهم. ومنذ خمسة أشهر شغلتني فكرة لم أستطع أن أنزعها من رأسي. كيف هو مار شربل؟ كيف كان يرى العالم على مساحة 184 دولة وهو جالس في محبسته؟ كيف كان يعرف بيوتهم والمرضى فيها ويشفيهم؟ وأيقنتُ أن الحياة الحقيقية ليست هنا. هذه الأفكار جعلتني أترك البعد الزمني وأعيش البعد الابدي. صرتُ أفكر أكثر بالموت وأنا عارف أني ذاهبٌ إليه فكيف سأرى الربّ الذي خلق الكون وخلق الشجرة». يعود لينظر من النافذة الى الأشجار العملاقة التي تحوط دير ميفوق ويقول: يا لجمال كل هذه الأشجار. أنظري كم هناك من أشجار. كيف صممها. كل شيء مصمم في هذه الدنيا. والمسيح قال: لن تسقط شعرة من رؤوسكم إلا بإرادة أبيكم الذي في السماوات. سرّ الإنسان كبير كي يتجسد المسيح على هيئة إنسان ويموت على الصليب. في المقابل، نرى الناس يغشون ويعيثون في الأرض فساداً. كل إنسان خلقه الرب ووضع له ضميراً وقال له: هذا صوتي وهو ليس مفروضاً عليك. قرّر. كل إنسان عليه أن يقرر. وساعده الربّ أكثر من اللزوم ليعرف كيف يختار. قال له يساعدك وينورك ويوجهك الروح القدس».
الفلسفة والإيمان
نصغي الى الراهب المقاوم، الى أستاذ الفلسفة الميتافزيقية، ونسأله: يقال ان من يدخل الفلسفة ويتعمق بها يبتعد عن الدين؟ فهل هو كسر للقاعدة؟ يجيب «خطر الفلسفة أنها تجعل الإنسان يستقلّ ويخال أنه فهم الكون. ولا يوجد فيلسوف متفق مع فيلسوف آخر. هناك تيارات بعيدة عن بعضها كل البعد. والخطير في الفلسفة أنها قد تقود الإنسان الى الإستقلال والإعتقاد بأنه هو قادر على تغيير الكون. في حين ان الإيمان شيء آخر. المؤمنون البسطاء يستسلمون للإله. أنا كنتُ أعود يوم كنت أدرس الفلسفة بين عامي 1948 و1958 الى بيت أهلي لأجدهم يتناولون خبزاً وزيتاً وزيتوناً. والصلاة كانت زوادتهم الأساسية. كانوا يطبقون مقولة: أعطنا خبزنا كفاف يومنا. كان إيمانهم صافياً وينقادون الى الله بلا فلسفة. كانوا مؤمنين أكثر مني».
أيقن الراهب توما مهنا مع الوقت أن الإيمان ليس على مستوى العقل فقط «بل على مستوى الرجاء. يعني أن أؤمن بالله وبأنني سالتقي به. هذا هو رجاء اللقاء. وهذا ما ليس مطبقاً عند الكثيرين. هناك مليارات البشر ولا واحد مثل الآخر. فهل عليّ أن آخذ طعامهم ومالهم وأعمل سوء إدارة وأخرب الدنيا».
مستاءٌ هو الراهب مهنا من كل ما يحدث في لبنان. فالمسيحيون الذين التقوا في الكسليك ذات يوم كانوا يفكرون في لبنان المستقبل. في لبنان المسيحي والمسلم الحضاري.
ماذا عن بشير إبن المقاومة المسيحية الذي عملت الكنيسة ليصبح رئيساً؟ يجيب الراهب توما مهنا «ضيعانه. كان يسحر الموجودين جميعاً، بكاريزما غير عادية، حين يتكلم. كان مخلصاً. راح. دعمناه كثيراً واحببناه كثيراً كثيراً. كنا متأكدين انه سيصبح رئيساً قوياً. ولم نتوقع أن ينهار كل شيء. كان بطلاً إستشهد. رفعنا الصلوات كثيراً من أجله. كنا نراه المنقذ للبنان، خشبة الخلاص، القبضاي. هندسنا مبادئ جمهوريته لكنه راح».
للمرة الرابعة والثمانين
الحسرة لا تزال تبدو على سحنة الأب مهنا وهو يتكلم عن بشير، عن الحلم بشير، والحلم بلبنان يشبه ما كان بشير قادراً على صنعه. سعيد عقل كان موجوداً حاضراً في إجتماعات الجبهة اللبنانية في الكسليك. ويقول عنه مهنا: «كان مخلصاً أيضاً ورأيه أوريجينال لبناني مئة في المئة». وكان أكثر ما يهم كميل شمعون وبيار الجميل المصلحة العامة. أما شارل مالك فأتذكر أنني ذهبتُ إليه ذات مرة، برفقة الأباتي بطرس قزي، الى منزله في الرابيه. رأيناه يقرأ تحت الشجرة (يضحك الأب مهنا ويرتشف قهوته). كان بين يديه كتاب كبير هو الكتاب المقدس باللغة الإنكليزية، العهد القديم والجديد، وقال لنا: هذه قراءتي له، من الجلدة الى الجلدة، للمرة الرابعة الثمانين. قرأ الكتاب المقدس 84 مرة. قراءة الكتاب المقدس ضرورة. ليت كل المسيحيين يفعلون مثله أقله مرة».
ان يعيش الإنسان 93 عاماً ويستمرّ مطواعاً للعلم لهو أمر مثير للدهشة. الراهب المقاوم لديه سرّه في ذلك «حين بلغت سن الثامنة والسبعين، بعد رئاستي دير عنايا، جلست مع نفسي أفكر: ماذا يمكنني أن أفعل بعد في آخر عمري؟ واتخذت القرار: سأترافق بعد وبعد مع المسيح. أتتني فكرة أن الكنيسة وزعت الكتاب المقدس على حياة المسيح، السنة الطقسية. الإفتتاحية ثم زمن الميلاد وزمن الغطاس والعمادة والصوم والقيامة والعنصرة. فرحت أدرس النصوص وكتابتها من جديد. سنتان في مار يوسف جربتا، عند رفقا، أنجزت نصوص الإنجيل في 12 كتاباً. كل يوم نصّ الإنجيل وشرحه. ثم أنجزت رسائل العنصرة. واليوم، بالصدفة، كان النص: لا تضطرب قلوبكم. لا تخافوا. آمنوا بي. آمنوا بالله». وأحيانا صدفة واحدة قادرة على تغيير حياتنا الى الأبد.
يعرف الراهب المقاوم سمير جعجع ويقول ممازحاً «لا أعرف غيره. هو يصلي كثيراً وإيمانه كبير. تزوج عندي في عنايا. كنت رئيس الدير. وعدتُ والتقيتُ به مراراً بعد خروجه من الحبس. تعذب ودفع أثماناً عن سواه. هناك سياسيون آخرون خضعوا لطموحاتهم وقهروا المسيحيين». لا يحب الأب توما مهنا الكلام في السياسة ويقتصر في كلامه فيها وفق قاعدة «ما قل ودل».
نخرج معه الى بهو دير ميفوق الخارجي وننظر في الأرجاء ونلمس الهدوء الكبير ونسأله: ما سرّ هذه الأرض التي أعطت قديسين بالجملة؟ يجيب: «المنطقة مسيحية مارونية وسيدة إيليج في الجوار رائعة. كانت، أيام زمان، مقراً وثنياً، وكان المارة يعبرون من جنوب لبنان وفلسطين وهم متوجهون الى تركيا. لا نعرف بالتحديد متى تحولت من مقر وثني الى مقر إيماني مسيحي- ربما على أيام الرسل- وصورة سيدة إيليج أتوا بها من شمال سوريا. جميلة جداً. حدثت هنا إضطهادات كثيرة. وتحول المكان الى مقر بطريركي. والآن، هناك سبعون أو ثمانون عضواً ( في رابطة سيدة إيليج) يعملون بحب وتضحية من أجل هذا المكان. بنوا مماشي وساحات وهنا يرقد مقاومون مسيحيون ضحوا بعمرهم من أجل لبنان. اصلي لهم صبحاً ومساء».
قرر الأب توما مهنا أن يثبت هنا في سيدة إيليج ويقول: «أريد أن انهي حياتي في سيدة إيليج، أمي السماوية، سلطانة السماء والأرض. وهنا أيضا أبانا الذي في السماوات. الله الآب. الثالوث. الذي لا أنساه لحظة. وكل يوم أتعلق به أكثر. أعترف أن الكهنة قصّروا قليلاً. الحياة المسيحية صعبة. وهناك واحد باع المسيح بثلاثين من الفضة. «خوت» لاحقاً وشنق نفسه».
يستيقظ الأب مهنا يومياً بين الساعة الرابعة والساعة الخامسة فجراً. يصلي ويظل يصلي من قلب قلبه ويقول: «فلنصلِّ جميعنا ليساندنا الله وكي تكون المؤسسات عندنا أقوى روحياً». ويدعو الناس الى تنظيم حياتهم وقراءة الإنجيل وحياة القديسين «إنها جميلة جداً بتجنن». يضيف «أشعر أن صحتي ستظل تساعدني نحو ثمانية أسابيع بعد ريثما انتهي من كتابة زمن الصليب. أنهيت كتابة عشرة أسابيع ويبقى ثمانية. بعدها رح سافر (يذرف دمعتين) ويضيف «إذا ربنا أراد سأسافر إليه وألحق أخواتي وخالتي وراهبات ورهباناً كثيرين سبقوني».
الموت مخيف. المؤمنون يخافون منه كالملحدين. فكيف يطمئنون إليه؟ يجيب «فليتغذوا من الله. وعندها مهما حدث في هذه الدنيا لن يؤثر عليهم. فلا تضطرب نفوسهم ولا يخافوا. ويستطرد: الإدارة الزمنية يا حبيبتي نوال فاشلة. كلنا خطأة ما عدا واحد أتى الى الأرض هو يسوع المسيح. الإدارة صعبة. حتى الرب فشل في الإدارة ولم يتمكن من تخليص كل الناس».
المذكرات
قال الراهب المقاوم الكثير لكنه لم يقل كل شيء. أحد عارفيه يقول: «هو طلب عام 2005 من الرهبنة أن يتنسك لكن ذلك لم يتحقق له. وكان من أكثر الناشطين أيام الجبهة اللبنانية (أمين سر لجنة الدراسات) وكل المحفوظات موجودة في درجه. وهو الذي أعطى الأباتي بولس نعمان ما سرده في كتاب مذكراته في جزئه الأول. وهناك وثائق كثيرة نشرت في الكتاب بخط أبونا توما مهنا. أربعة رهبان كتبوا مذكراتهم متكلين على كراريس- مدونات- الراهب مهنا بينهم الأباتي بولس نعمان والأب مارتينوس سابا. وهذا الأخير هو من أتى بباخرة الأكوا مارينا المحملة سلاحاً في العام 1975. وهو التقى رشيد كرامي مع رئيس حكومة فرنسا آنذاك بالصدفة فنظر كرامي الى مارتينوس وقال له: الآن تذكرت من أنت. أجابه: لو كنت مكاني ماذا كنت فعلت؟».
سئل الاب توما مهنا: لماذا لم تكتب مذكراتك؟ أجاب: أعطيتها الى الأباتي نعمان. يكفي ان يكتبها احدنا. قمة التواضع هو هذا الأب. وزود بالكثير منها ايضاً جوزف أبو خليل.
ما أبى أن يتحدث عنه أيضاً هي الأخطار التي كانت تحدق به يوم سافر الى العراق «كان يلحق بالمسيحيين اينما كانوا ولا يبالي بنفسه. ورفض أن يعود إلا بعد أن قررت الرهبنة ذلك تحت حجة أنه أصبح كبيراً في السنّ وهناك خطر كبير على حياته. وهو من كان وراء كتابة الأب يوسف مونس نشيد الرهبان المقاتلين. كان مندفعا بشكل هائل ولا شيء يحد من عزيمته. وكان- ويستمر- مؤمناً بالوجود المسيحي وتحديداً الماروني، حامل الرسالة، في هذا الشرق. وهو سعى بكل ما اوتي من قوة بالدبلوماسية والسلاح من أجل بقاء المسيحيين الحرّ في هذه الأرض. وأكثر ما يزعجه هو الإشتباك بين المسيحيين. ونقلاً عن أحد عارفي الراهب:» في خلوة سيدة البير الشهيرة ( كانون الثاني 1977) حصل إشتباك كلامي بين من يريدون الفيدرالية وبين الشيخ بيار الجميل الذي قال: لا للفيدرالية. أما الراهب توما مهنا فرأى أن الدولة الإتحادية ستكون الحلّ».
السلاح أحيانا ضروري لكن سلاح الثقافة أقوى. وها هي حياته مسار طويل طويل من المعرفة والثقافة والتقوى والإيمان. واليوم ما زال يسأل: «كيف لي أن أترافق مع المسيح الى أبد الآبدين». وإصداراته كثيرة: 11 كتاباً بعنوان «ربي إملأني منك» الى عشرات الاطروحات والكتب الأخرى.
ربنا جميل. إلهنا لا يوصف. ووصيته الى الجماعة: إفرحوا مع المسيح. وكلمته الختامية كتبها لنا بخطه: «أخي أختي بعد التحية من صميم القلب والتمني لكم بالنجاح الحقيقي اذكركم بان حياتكم ذات بعدين زمني ارضي، وارجوكم الإكتفاء بالضرورة له. وبُعد أبدي مع الرب يسوع، مع مريم العذراء، ومع القديسين الذين لا يحصى عددهم. وأتمنى أن تؤمنوا بذلك فلا يكون إيمانكم حقيقياً إلا إذا اقترن بالرجاء أي بالوصول بعد الموت الذي ينتظر كل منا دون إستثناء وأن تباشروا عيش ذلك الآن برفقة الله والثالوث في المحبة التي هي إرتباط بالآخر، بأيِّ آخر وبالإكتمال معه. وأعذروني عن أي نقص تقرأونه في هذا النص».