… وبدأ الهجومُ البري. عنوانٌ دخلتْ معه الحرب التي انفجرت مع عملية «طوفان الأقصى» مرحلةً جديدة من العصف الذي حَبَسَ لبنان الأنفاس بإزائه خشيةَ أن يجد نفسه في قلب جهنّم التي فُتحت على غزة التي «تُذبح» ويُراد تحويلها «غرفة إعدام كبيرة» باسم «الدفاع عن النفس».
ورغم مراوحة العمليات العسكرية للجيش الإسرائيلي في اتجاه غزة أمس بين تقديمها على أنها تدشين للغزو البري الشامل، وبين اعتبارها مرحلة أعمق من التوغّلات المُمَهِّدة لاجتياحٍ قد لا يكون بالمفهوم التقليدي ويمكن أن يستمرّ على طريقة الدخول والانسحاب وإبقاء دور فاعل لسلاح الطيران بمعنى التوغل الـ «برّ جوي» المنسَّق، فإن الأكيد أن القطاع المحاصَر بات أمام اختبار نارٍ جديد ارتسمت وقائعُه الميدانية داخله كما عبر «عمليات الإسناد» على امتداد «قوس الحلفاء»، من اليمن حيث جدّد الحوثيون، وهذه المرة بإعلانٍ رسمي غير مسبوق، محاولة استهداف إسرائيل بصواريخ بالستية وبالمسيّرات، مروراً بسورية والعراق عبر تكرار قصف قواعد أميركية، وصولاً إلى لبنان من خلال تكثيف «حزب الله» استهداف مواقع إسرائيلية وقوة متموْضعة على تلة (في محيط موقع العاصي قبالة ميس الجبل).
وفي حين كانت التقديرات تشير قبل زيادة إسرائيل منسوب توغلها البري أمس إلى أن «حزب الله» سيرفع وتيرة عملياته، وإن ضمن الضوابط التي لا تستدرج «الأسد الجريح» الإسرائيلي لشنّ حرب على لبنان، وذلك في ملاقاة الإطلالة المنتظَرة لأمينه العام السيد حسن نصر الله بعد غد، فإنّ القلق تَعاظَمَ في بيروت من احتمالات انقطاع «الحبل الرفيع» الذي تسيرُ عليه البلاد فوق البركان المتفجّر في غزة ولا سيما في ظلّ عدم إمكان الركون إلى تقاطعاتٍ مصلحية حول عدم توسيع الجبهة (أميركية – إسرائيلية – إيرانية) قد تكون قابلة للتبدّد وفق مجرياتِ الميدان أو محاولة إسرائيل المأزومة جرّ الجميع وفي مقدّمهم الولايات المتحدة إلى «وليمةِ نارٍ» على أكثر من جبهة تُفْضي إلى «حلّ متعدّد الرأس» وبما يموّه على عدم قدرتها على تحقيق انتصارٍ صريح في غزة.
وإذ لاحظتْ أوساطٌ مطلعة أن إطلاق إشارة «الهجوم البري» جاءت على وقع تعالي الأصوات في إسرائيل لاستقالة بنيامين نتنياهو فيكون «(نيفيل) تشامبرلين الثاني» (في إشارة إلى رئيس الوزراء البريطاني الذي استقال في 1940 خلال الحرب العالمية الثانية)، وفي ظلّ مشاهد مروّعة لمجزرة جباليا أمس وأشرطة عن همجية الجيش الإسرائيلي في تعذيب فلسطينيين في الضفة الغربية، فإنّها حذّرتْ من سوء تقدير المدى الذي قد تبلغه تل أبيب في سعيها لمحو وصمة العار التي شكّلها 7 أكتوبر وهو ما عبّر عنه في الساعات الماضية:
– رفع سفيرها لدى الأمم المتحدة جلعاد أردان نجمة سداسية صفراء على صدره خلال جلسة مجلس الأمن (أول من أمس)على شكل «نجمة داوود» كُتب عليها «لن يتكرر ذلك مرة أخرى»، في إشارة إلى أن إسرائيل لن تسمح بتكرار المحرقة أو الهولوكست، وهي الشارة التي تشبه أخرى قديمة كان قد فُرض على اليهود وضعها خلال الحقبة النازية في ألمانيا، وذلك تحت عنوان «سأرتدي الرقعة الصفراء حتى نقضي على حماس النازية، وحتى يتوقف مجلس الأمن عن الصمت… ويدين مجزرة 7 أكتوبر»، مشبهاً السيد علي خامنئي بأدولف هتلر «وجيشهم يضم حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله والحوثيين».
– رفْضُ إسرائيل الهدنة الإنسانية، وليس فقط وقف النار، وسط محاولة من نتنياهو للتعمية على المأزق الذي يواجهه في ملف الأسرى الذي تحوّل ورقة ضغط شعبي ضدّه، عبر طرحه معادلة شبه مستحيلة تقوم على التوفيق بين «استعادة الأسرى وسحق حماس»، وهو ما يتطلّب في الشق الأول التفاوض معها عبر وسطاء ويستوجب في الثانية المضيّ في آلة الحرب بوجهها، وسط اعتبار خبراء إسرائيليين أن معضلة نتانياهو تتمثل في كيفية إدارة هذا الملف من دون إعطاء إشارة، من خلال التنازلات المطلوبة، إلى إمكان السماح بتكرار هذا الأمر، وفي الوقت نفسه القضاء على حماس بحيث تضمن تل أبيب ألا يتكرر السابع من اكتوبر مرة جديدة أبداً.
وفي مقابل تقديراتٍ بأن إطالة أمد الحرب على غزة وتَعمُّق الكارثة الإنسانية وارتفاع حصيلة الضحايا الفلسطينيين ستزيد من تقليب الرأي العام العالمي ضد إسرائيل، فإنّ هذا لا يكفي وفق الأوساط المطلعة للاطمئنان إلى أن المعركة ستبقى محصورة في القطاع «المخنوق».
فبعد بدء العملية البرية في غزة، وقبل إطلالة نصرالله، اشتدت التحريات عن مآل «معركة ما بين الحروب» الدائرة على جبهة جنوب لبنان المحكومة بقواعد اشتباك يحترمها الطرفان (إسرائيل وحزب الله) وتقتصر حتى الآن على ضربات موجعة و«شبه متوازنة»في الجغرافيا والخسائر على طرفي الحدود.
ويُنقل في هذا السياق، عن دوائر قيادية في«محور المقاومة»أن لا قرار بتفجير واسع النطاق مع إسرائيل عبر ما يُعرف بـ«الجبهة الشمالية»، فالمواجهات التي دشّنها«حزب الله»في اليوم الأول من«طوفان الأقصى»واستمر بها وفق وتيرة مدوزنة تؤدي غرضَها عبر اشغال الجيش الإسرائيلي وتشتيت قواه.
وفي تقدير هذه الدوائر، أن ميدان غزة سيَحكم قواعد اللعبة في نهاية المطاف، فإذا تمكنت الآلة العسكرية الإسرائيلية من إحداث «دفرسوار» في غزة وشقها وعزْل شمالها عن جنوبها على نحو يجعل حركة «حماس» في مصيدة لا مفر منها، فإن الأمور ربما تأخذ منحى مختلفاً على جبهة الجنوب.
وفي اعتقاد هذه الدوائر أن «حزب الله» الذي يستحضر معادلة ما يعرف «أُكل الثور الأسود يوم أُكل الثور الأبيض»على اقتناعٍ بأنه سيكون الهدف التالي بعد «حماس» (ولو بعد حين) في حال نجح مخطط شطْبها، وهو الأمر الذي لن يسلّم به وقد يدفعه إلى قلب الطاولة، تماماً كما حدث يوم قرر الانخراط في الحرب السورية لمنع سقوط نظام الرئيس بشار الأسد لاقتناعه أيضاً بأنه سيكون الهدف التالي.
وفي السياق، قال مستشار الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هانغبي، أمس، إن إسرائيل تتخذ وضعاً دفاعياً على الجبهة اللبنانية لتفادي إرهاق قواتها بينما تركز على شن الحرب على حركة «حماس» في قطاع غزة.
وأضاف «بعد يوم واحد من (القضاء على) حماس» ستطبق إسرائيل «الدروس المستفادة» على «حزب الله».
ولم تسقط هذه الدوائر – بحسب ما نقل عنها – من حسابها في حال نجحت إسرائيل في الانتقام من الصفعة الإستراتيجية التي تعرضت لها في السابع من أكتوبر، أن تتمادى وتخرج من دائرة التردد التي قد تنتهي مع خروج بنيامين نتنياهو من الحُكْم هو الذي كان يحاذر خوض الحروب، وحصول تبدلات دولية كعودة دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية، ما يجعل إيران والقوى الموالية لها في دائرة استهداف حقيقي.
واشنطن وباريس
وهذه الصفائح المتحرّكة والقابلة للاهتزاز بحسب مجريات الحرب في غزة ستكون محور لقاءات كل من مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى باربارا ليف ووزير الدفاع الفرنسي سيباستيان ليكورنو في بيروت، اليوم، وهما سيؤكدان مخاطر تمدُّد الحرب إلى لبنان، وهو ما كان حذّر منه في مواقف بارزة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الذي كشف أن وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا أبلغت الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي خلال زيارتها لبيروت بعد«طوفان الأقصى»أنَّ«ما منطقة لبنانية ستَخرج سالمة»بحال انجرّت البلاد إلى الحرب.
ولم يقلّ دلالةً على خطورة اللحظة، دعوة جنبلاط«حزب الله»رداً على مشاركة مجموعات أخرى غيره بعمليات في جنوب لبنان،«أن تكون الآلة العسكرية لكم وحدكم في الجنوب، ممسكة بقرار السلم والحرب، بالإضافة إلى وجود الجيش اللبناني». لكن عندما تدخل تلك الفصائل، قد يكون قرار البعض منها ليس بيد حزب الله، وقد تكون هناك مصالح ثانية إقليمية أو محلية قد تحرج «حزب الله» وتدخله في حرب شاملة خارج إدارته.
وفي سياق متصل، أكد ميقاتي أنه يعمل على«تجنيب لبنان دخول الحرب»، معلناً«أن حزب الله حتى اليوم يقوم بعقلانية وحكمة بإدارة هذه المواضيع، وشروط اللعبة لاتزال محدودة»، لكنه قال إنه لا يستطيع«طمأنة اللبنانيين»، لأنّ«الأمور مرهونة بأوقاتها»، مشدداً على أنّ الشعب اللبناني«لا يريد دخول أي حرب ويريد الاستقرار، خصوصاً بعد أن وصل الى مستويات من الفقر والعوز».
وفي الميدان، اشتدت المواجهات أمس على طول الجبهة الجنوبية وصولاً إلى مناطق شمال الليطاني استهدفتْها إسرائيل، مع بروز إعلان«حزب الله»أنه«وبعد رصْد دقيقٍ من مجاهدي المقاومة الإسلامية لقوات الاحتلال الإسرائيلي على الحدود، تم اكتشاف كمين لقوة إسرائيلية متموضعة على تلة الخزان في محيط موقع العاصي، فقامت مجموعة الشهيد الاستشهادي حسين منصور باستهدافها بالصواريخ الموجهة ما أدى إلى تحقيق إصابات مباشرة فيها وسقوط جميع أفرادها بين قتيل وجريح»، قبل أن يؤكد«استهداف موقع المرج بالأسلحة المناسبة وتحقيق إصابات مباشرة في تجهيزاته».
في المقابل، قامت مسيّرات إسرائيلية بإطلاق أربعة صواريخ على حديقة إيران في مارون الراس، فيما أعلن الجيش الإسرائيلي«اننا قصفنا موقعاً تابعاً لحزب الله جنوب لبنان رداً على إطلاق قذائف هاون وصواريخ مضادة للدروع».
كما استهدف القصف الإسرائيلي بالقذائف الحارقة كروم الزيتون بين بلدة ميس الجبل و محيبيب، وخراج بلدة يارون، ومنطقة«المشيرفة»عند رأس الناقورة في محيط المنطقة التي كان يعمل فيها عناصر الإطفاء على اخماد النيران المندلعة، وكذلك بلدة مروحين.
وقصف الجيش الإسرائيلي أيضاً سواتر موقع الجيش اللبناني بين بلدة مركبا ووادي هونين بـ 6 قذائف مباشرة من دون وقوع إصابات في صفوف الجيش.
«جريمة حرب»
في موازاة ذلك، أعلنت منظمة العفو الدولية أنها خلصت«في تحقيق جديد إلى أن الجيش الإسرائيلي استخدم الفوسفور الأبيض بشكل لا يميّز بين المدنيين والعسكريين، وبالتالي بشكل غير قانوني، في هجوم على بلدة الضهيرة في 16 أكتوبر».
وأعلنت«يجب التحقيق في هذا الهجوم باعتباره جريمة حرب».
وعلى وقع هذا الصخب، حاول البرلمان اللبناني عبر اللجان المشتركة البحث في خطة الطوارئ الوطنية التي وضعتها الحكومة تحسباً لأي عدوان على لبنان ولكن أحزاب المعارضة طالبت«بمنع انزلاق لبنان إلى الحرب عبر تطبيق القرار 1701 بكل مندرجاته وليكون الجيش القوى المسلحة الوحيدة جنوب الليطاني وعدم إعطاء العدو الإسرائيلي الذرائع لإعلان الحرب على لبنان».