“لا نبحث عن حرب شاملة، لكننا مستعدون لها”، هذا ما يكرره طرفان عدوان مشتبكان في حرب مرتبطة بحرب غزة: بنيامين نتنياهو والوزراء في حكومته والسيد حسن نصرالله وبقية المسؤولين في “حزب الله”. وهو أيضاً ما يردده المسؤولون الكبار في أميركا وإيران القوتين اللتين تقف كل منهما وراء أحد الطرفين، وتعملان لكبح الانزلاق نحو حرب شاملة وإبقاء الباب مفتوحاً لصفقة إقليمية-دولية.
والترجمة العملية لذلك هي أن الطرفين ليسا جاهزين لحرب شاملة، وإن كانت إسرائيل راغبة فيها بالاضطرار إن فشل الخيار الدبلوماسي في ترتيب تسوية تعيد الهدوء إلى الجنوب اللبناني والشمال الإسرائيلي. فالتهديد المتبادل بالدمار الشامل هو البديل من الحرب الشاملة بوصفه وسيلة للردع المتبادل. ولا أحد يكشف سلفاً الأهداف التي يريد ويستطيع ضربها إذا كان ذاهباً إلى الحرب التي هي عادة لعبة مفاجآت.
لكن لبنان دفع سلفاً كلفة الحرب. فالسفارات حذرت مواطنيها من القدوم إلى لبنان أو من البقاء فيه. وموسم السياحة الصيفية تلقى ضربة قاسية، بصرف النظر عن المظاهر والإصرار على الحفلات الغنائية. والمشكلة ليست فقط في ربط لبنان بحرب غزة، فهذا ربط ظرفي، بل أيضاً في ربط الوطن الصغير بالمشروع الإقليمي الإيراني واستراتيجية “وحدة الساحات” ضمن ما يسمى “محور المقاومة” الممتد من اليمن إلى غزة مروراً بالعراق وسوريا ولبنان بقيادة الحرس الثوري الإيراني.
والخوف ليس فقط من الحرب الشاملة فهذه تدمر العمران، بل أيضاً من العمل على تغيير الهوية اللبنانية وضرب النسيج الاجتماعي الوطني. وليس أمراً بسيط الدلالات أن يركز الكاردينال بيترو بارولين أمين سر دولة الفاتيكان خلال زيارته الأخيرة لبيروت على “الاهتمام بلبنان للحفاظ على هويته الفريدة في الشرق الأوسط”. ففي رسالة عن لبنان إلى أساقفة الكنيسة الكاثوليكية عام 1989 قال البابا يوحنا بولس الثاني عشية المجمع الفاتيكاني الخاص بلبنان و”الإرشاد الرسولي”: “وإذ تقوم كنيسة بهذه المبادرة الروحية، فإنها تريد أن تظهر للعالم أن لبنان هو أكثر من بلد، إنه رسالة حرية ونموذج في التعددية للشرق كما للغرب”.
والصراع على هوية لبنان ليس جديداً. فهو سبق ورافق وتلى إعلان لبنان الكبير عام 1920 بعد نهاية المتصرفية في الجبل وسقوط السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى. والمفترض أن هذا الصراع انتهى بالتوصل في اتفاق الطائف إلى صيغة واضحة وثابتة جرى النص عليها في مقدمة الدستور، وهي “لبنان عربي الهوية والانتماء، وهو عضو مؤسس وعامل في جامعة الدول العربية وملتزم مواثيقها، كما هو عضو مؤسس وعامل في منظمة الأمم المتحدة وملتزم مواثيقها والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وتجسد الدولة هذه المبادئ في جميع الحقول المجالات من دون استثناء”، فضلاً عن النص على أن “لبنان وطن سيد مستقل، وطن نهائي لجميع أبنائه، واحد أرضاً وشعباً ومؤسسات، في حدوده المنصوص عنها في هذا الدستور والمعترف بها دولياً”.
لكن اتفاق الطائف تعرض لانقلاب غير جوهره ومنع تطبيق البنود الأساسية فيه. فلا كون البلد عربي الهوية والانتماء بات يكفي قوى تريد له هوية إضافية تعلو على هويته العربية. ولا التسليم بالوطن النهائي دفع أحزاباً إلى تعديل كونها فروعاً لأحزاب تعمل لوحدة الأمة السورية أو وحدة الأمة العربية أو وحدة الأمة الإسلامية. لا الوطن السيد الحر كان بالفعل وطناً سيداً حراً، إذ تنقل من الاحتلال الإسرائيلي إلى الوصاية السورية ثم الوصاية الإيرانية مع دور أميركي وآخر فرنسي في كل هذه المراحل. ولا الشعب الواحد نجا من هيمنة طرف يملك فائض القوة بما دفع أطرافاً عدة إلى البحث عن صيغة أخرى عبر الفيدرالية أو التقسيم، فضلاً عن أن العالم العربي كله يتعرض لمحاولات تغيير الهوية. ولا إنقاذ إلا بالعودة إلى تطبيق اتفاق الطائف نصاً وروحاً، وإلى تطبيق القرار الدولي الرقم 1701 بكل مندرجاته.
تطبيق اتفاق الطائف يفتح الطريق إلى دولة مدنية، من حيث يعمل البعض لإقامة دولة دينية هي وصفة لحرب دائمة في وطن من 18 طائفة. وتطبيق القرار 1701 هو البديل من اتفاق لبناني-إسرائيلي رسمي مثل اتفاقات فك الارتباط بين إسرائيل وكل من مصر وسوريا بعد حرب 1973. والتجارب أكدت أن ما يبدو سهلاً أو ممكناً هو الصعب أو المستحيل بالنسبة إلى تغيير هوية لبنان. فلا أي طرف محلي نجح في المحاولة، ولا أية قوة إقليمية حققت ما خططت له. تجربة الفصائل الفلسطينية انتهت بكارثة. تجربة إسرائيل بعد احتلال 1982 فشلت. تجربة سوريا فشلت قبل أن يفرض عليها التحرك الشعبي الداخلي والقرار الأميركي-الفرنسي الانسحاب العسكري عام 2005. وتجربة إيران مرشحة للفشل، وإن كانت لها قوة مسلحة محلية.
لكن الأخطار لا تزال كبيرة. الأزمة المالية والاقتصادية العميقة عصية على الحل، لأن الحل يضرب مصالح المافيا الحاكمة والمتحكمة التي هي صاحبة القرار. بلد انخفض دخله القومي إلى21.5 مليار دولار وموازنته السنوية إلى 3 مليارات، يستورد بـ19.5 مليار دولار. والأزمة الوطنية والسياسية ليست على جدول الأعمال. فلا طرف في الداخل يستطيع الحسم. ولا طرف في الخارج يستطيع الحسم. لا مجموعة الأطراف في الداخل تصل إلى تفاهم على تسوية. ولا أصحاب الأدوار في لبنان بين القوى الإقليمية والدولية هم في مرحلة البحث عن حل، لكن كل طرف يستطيع صنع أزمة والحيلولة دون الانتظام العام.
والمخيف أكثر، هو أن لبنان الرسمي المتروك في شغور رئاسي مبرمج، وسط انهيار يكتمل، ليس له بديل حتى عند الذين يتصورون أنهم جزء من مشروع إقليمي. ولبنان العربي يراد له أن يمارس سياسة تضعه في عزلة عن الأشقاء العرب. والطرف الذي يقوم بحرب ضد رغبة الأكثرية اللبنانية، ويلعب دوراً إقليمياً، يصر على أن يكون للبنان عمق إقليمي واحد غير عربي، وإنهاء الهامش الضروري الفاصل بين الموقف الرسمي وموقف المقاومة الإسلامية. وليس أخطر من الأزمة العميقة سوى أن تبدو من خلال سلوك البعض كأنها الطريق إلى حل أسوأ من الأزمة في النهاية.