مع العدِّ التنازُلي لرمضان المبارك ونَفاذ الآمال بفتْح نافذةٍ لهدنةٍ في غزة تبدأ مع الشهر الفضيل وتسود على امتداده وأكثر، بدت بيروت وكأنها «تتجرّع» كما المنطقة ما بات يُطلق عليه «معارك مستدامة» كبديلٍ عن الحلول الدائمة غير الممكنة أو غير الجاهزة بعد، بما في ذلك على جبهة جنوب لبنان التي يترنّح أفقها العسكري بين «حربٍ أكبر» و… الحرب الكبرى.
ومع طغيان الرصيف الموقت الأميركي على شاطئ غزة والممر البحري من سواحل قبرص لنقل المساعدات على مفاوضات الهدنة التي أصبحت شبه «معدومة الحظوظ» قبل بداية رمضان، كثرت السيناريوات حيال ما ينتظر جبهة الجنوب اللبناني التي يؤكد سقوطُ فرصةِ وقف النار الموقت في القطاع المؤكدَ لجهة أنها ستبقى على اشتعالها، ليرتفع صوت السؤال المحوري: هل تنفجر بالكامل ومعها معادلاتُ «ضبْط النفس» التي صمدت منذ 8 أكتوبر خلْف «توازن التدمير» المتبادَل (وإن كان يميل بطبيعة الحال لمصلحة إسرائيل) وشعور تل أبيب بأنها تراكم «فوزاً بالنقاط» باستهدافاتها المتنوّعة، أم تتطوّر الحرب ولكن بضوابط يُمْليها حدّان:
الأول تحديد إسرائيل رقعةً جغرافيةً تتحوّل مسرحَ عملياتها التدميرية بعمق بين 8 و10 كيلومترات من الحدود مع لبنان تجعلها أرضاً محروقة فتكون نفّذتْ بالقوة مطلبَ إبعاد «حزب الله» عن الحدود لهذه المسافة وإقامة ما يشبه «المنطقة العازلة» الكفيلة طمأنة مستوطني الشمال لعودة آمنةٍ ولعدم تكرار 7 أكتوبر بنسخةٍ أكثر خطورة.
– والثاني عدم رغبة أو قدرة «حزب الله» على التفلّت من عناصر «ردعٍ ذاتي» تُبْقيه حتى الساعة على انضباطٍ في ردوده على تمادي إسرائيل في استفزازاتٍ وتمديدها لقواعد الاشتباك و«جغرافيا النار» وفي اعتداءاتٍ لا توفّر مدنيين، وهو ما تَدْخل في حسابه عناصر داخلية، ولكنها ثانوية رغم معاني شبه «انكشاف ظهْره» المحلي في ضوء اتساع دائرة رافضي الانخراط في حربٍ من ضمن «وحدة الساحات» وليس آخِرهم الحليف «القديم» للحزب اي التيار الوطني الحر، ليشكّل البُعدُ الإيراني العاملَ الحاسم في احتسابه خطوات الحرب بـ «ميزان الجوهرجي».
وفي هذا الإطار يسود انطباع لدى دوائر مراقبة بأن قرار طهران بتفادي الانزلاق إلى الاصطدام الكبير وزجّ حزب الله في فوهة البركان بات أكثر إلحاحاً مع استشرافِ إمكان عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض الخريف المقبل، وما يستوجبه ذلك من الاحتفاظ بأوراق القوة الرئيسية لدرء «الأخطار الكبرى» على إيران نفسها، ما يفتح احتمالَ أن يُقابَل أي ارتقاء اسرائيلي في الحرب على لبنان – ما لم تشمل قصف مدن رئيسية وضرب البنية التحتية للدولة – بردودٍ من أذرع أخرى في «محور الممانعة» تكون بمثابة «الردّ البديل»، ومن معالمه «السبّاقة» في الفترة الأخيرة محاولات استهداف حيفا من مجموعات عراقية.
وما يعزّز الخشية من «ربيع ساخن» على جبهة الجنوب، الاقتناعَ بأن المحاولات الأميركية – الأوروبية لرفْد غزة بـ«أنابيب تغذية» تحت عنوان درء المجاعة، ما هو إلا بمثابة تسليمٍ بعدم إمكان إرساء هدنة لم تتوافر شروطها على المقلبين، ونفضِ يدٍ «من دم» المزيد من الفلسطينيين، وسط مفارقة نافرة عبّر عنها خبراء دوليون وناشطون استوقفهم أن الجسر الجوي والآن البحري للمساعدات يكون في العادة في دول أنظمتها عدائية أو معادية للولايات المتحدة وليس على أراضٍ حيث يخوض أحد حلفائها (اسرائيل) حرباً.
«ضخ الأموال»
وفي حين كان الميدان جنوباً أمس على وقائعه اللاهبة، وسط تَصاعُد التهويل الإسرائيلي بعمليةٍ برية محتملة في لبنان في ضوء تقارير عن تكليف العميد موشيه تمير بمسؤولية إعداد عدة خطط محتملة لتوغل بري بمستويات مختلفة (تمير هو مَن صاغ خطة دخول الجيش الإسرائيلي غزة وطُلب منه استخلاص الدروس من القتال في القطاع)، لم يكن عابراً أن تفرز حرب غزة والمواجهات على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية جبهةً موازية ماليةٍ تشي بأن تضع بيروت – العالقة أساسياً بين ناريْ القطاع والجنوب – بين «فكيْ كماشة» ضغوط سياسية لفصْل «بلاد الأرز» عما يحصل في غزة وأخرى تحت عنوان عدم استخدام قطاعه المالي «منصة» لضخّ الأموال لحماس.
وفي هذا الإطار برز ما نُقل عن حصيلة زيارة مسؤولٍ بارز في وزارة الخزانة الأميركية لبيروت أخيراً وأنه حضّ السلطات اللبنانية على منع تحويل الأموال إلى «حماس» عبر لبنان، كما نقلت «وكالة أسوشيتد برس» عن مسؤولين.
ووفق هذه المعلومات، فقد التقى جيسي بيكر، نائب مساعد وزير الخزانة لشؤون آسيا والشرق الأوسط في مكتب تمويل الإرهاب والجرائم المالية، مع سياسيين لبنانيين ومسؤولين من القطاع المالي يوميْ الخميس والجمعة.
وقال مسؤول في الخزانة، تحدث شرط عدم الكشف عن هويته، إن بيكر أبلغ إلى السلطات اللبنانية «مخاوف محددة» في شأن «حركة أموال حماس عبر لبنان، وأموال حزب الله القادمة من إيران إلى لبنان ثم إلى مناطق إقليمية أخرى»، داعياً إلى «إجراءات استباقية» لمكافحتها.
وقال المسؤول إن الجماعات تحتاج إلى تدفق الأموال لدفع رواتب مقاتليها والقيام بعمليات عسكرية ولا يمكنها تحقيق أهدافها بطريقة أخرى.
وذكر مسؤول الخزانة أن امتثال لبنان للمعايير العالمية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب هو ركيزة أساسية لجذْب الاستثمارات من الولايات المتحدة وبقية العالم وإخراج البلاد من أزمتها التي طال أمدها.
وأضاف المسؤول الأميركي أن بيكر طالب لبنان باتخاذ إجراءات صارمة ضد القطاع الكبير من شركات الخدمات المالية غير المشروعة التي ازدهرت مع انهيار النظام المصرفي الرسمي في البلاد على مدى أربع سنوات من الأزمة الاقتصادية، بما في ذلك الصرافة غير القانونية وعمليات تحويل الأموال غير المرخصة.
وهذه الشركات، إلى جانب الاقتصاد النقدي الذي يقدّر البنك الدولي أنه يصل إلى ما يقارب 46 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبنان، قدّمت حلولاً للأشخاص والمجموعات المحظورة في النظام المالي الرسمي بسبب العقوبات الأميركية، بما في ذلك «حماس» و«حزب الله»، وكلاهما تعتبرهما واشنطن منظمات إرهابية.
وفيما قال وليد الكيلاني، الناطق باسم «حماس» في لبنان إنه لا يملك «معلومات» حول هذا الأمر، أكد حليم برتي، الناطق باسم مصرف لبنان المركزي، أن مسؤولين في المؤسسة التقوا بيكر، ووصف الاجتماعات بأنها «إيجابية للغاية».
وأضاف أن البنك المركزي يقوم بدوره لتنظيم شركات الخدمات المالية المرخصة، لكن أولئك الذين يعملون من دون ترخيص «ليسوا ضمن ولايتنا القضائية» ويجب التعامل معهم من قبل جهات إنفاذ القانون.
«حزب الله»
في موازاة ذلك، برز موقف لنائب الأمين العام لـ «حزب الله» الشيخ نعيم قاسم مضى فيه برسْم حيثياتِ عدم وجود مصلحة لـ «حماس» في الهدنة بالشروط المطروحة عليها، إذ قال: «بخصوص ما يتم التداول به حول اتفاق وقف إطلاق النار، فإذا لم يكن هناك اقتراح يؤدي لوقف القتال وإنهاء الحرب، فإنكم تطلبون من المقاومة أن تسلّم الأسرى مقابل بعض الطعام وأخذ المحتجزين ثم القضاء على الفلسطينيين. عن أيّ عقل هذا»؟
وأضاف ان «الحل يكمن في وقف الحرب وليس بهذا الأسلوب. ومَن راهن على سحق المقاومة اكتشف أنّه لا يمكن إنهاؤها، المقاومة التي حرّرت الجنوب والبقاع الغربي العام 2000 هي عينُها المقاومة التي تجاوزت الكذب الدولي والقرارات الدولية واستطاعت إخراج إسرائيل غصباً عنها ببركة الجهاد وببركة الجيش والشعب والمقاومة».
وتطرق الى الانتقادات الداخلية لدخول الحزب في الحرب، وبينها من «التيار الحر»، وقال: «مساندتنا لغزة نعتبرها واجباً علينا جميعاً. ومن يقول إن لا علاقة لوطننا بالآخرين، نقول له حتى تكون وطنياً يجب أن تحمي حدودك الجغرافية، ولكن حتى تكون إنساناً يجب أن تتعاطف مع إخوانك المجاورين لك، عندها تكون الوطني الإنساني الذي تستحق الوطن المستقل».
وأضاف: «ماذا لو هجمت إسرائيل على لبنان؟ في حال هاجمت سنواجهها وستلعن الساعة التي قررت فيها مهاجمة لبنان. مقتضى الوطنية هو مساندة المقاومة التي دافعت وتدافع عن لبنان. اليوم أي وطني في لبنان يجب أن يكون في صف المقاومة، ومهما تحدثتم عنا فلن ننقص، نحن نريد لشركائنا في الوطن أن يكونوا كباراً، لذلك دائماً نقول، إنَّنا لا نطلب دعماً وإنما لا نقبل طعناً تستفيد منه إسرائيل. وللذين يقومون بالضغط أقول لهم: اقلعوا عن هذا السلوك لمصلحة أبنائكم وشركائكم والوطن».
«ملء وقت ضائع»
ومن خلف ضجيج الميدان واحتمالاته، يزداد الاقتناعُ على المقلب السياسي و«معاركه المحلية» بأن كل المحاولات الداخلية كما الخارجية لشقّ مَخرج للبنان من الأزمة الرئاسية المستعصية منذ 16 شهراً ونيف لا تعدو كونها في سياق «ملء وقت ضائع» باعتبار أن ظروف نجاح أي مبادراتٍ تتشابك فيها العناصر المحلية مع الإقليمية، والأخيرة غير ناضجة بعد في ظلّ طغيان حرب غزة وتداعياتها المتدحرجة على أي عناوين أخرى، لم تعوّل أوساط سياسية على الجولة الجديدة من حركة تكتل «الاعتدال الوطني» ومبادرته التشاورية لكسْر مأزق الشغور رغم زيارته أمس لرئيس البرلمان نبيه بري الذي كان مرّر «ضوءاً أخضر» للتكتل للانطلاق في مَهمته قبل أن يجري «الارتداد» عليها بعدما ذهبت أبعد مما كان متوقّعاً لها في ضوء تلقُّفٍ له من أطراف في المعارضة بما أحرج فريق «الممانعة».