أعادت هذه المحنة التي يمر بها إبراهيم تسليط الضوء على معاناة الفنان اللبناني، فهذه ليست المرة الأولى التي تطرح فيها هذه المسألة، إذ سبق أن واجه فنانون كثر مثل هذا المصير لدى إصابتهم بالمرض أو نتيجة تقدمهم في السن بغياب أي حماية اجتماعية أو دعم للفنان أو للمواطن عامة. وبدا واضحاً أن الأزمة الاقتصادية التي يشهدها لبنان أسهمت في معاناة الفنانين اللبنانيين، خصوصاً عند التقدم في السن والعجز عن تأمين كلف العلاج مع تراجع المدخول.
تعددت الحالات والمأساة واحدة
منذ عقود، يعاني الفنان اللبناني من العجز في مواجهة أي أزمة صحية يتعرض لها، إذ قد يمر بمرحلة من الإذلال والإهمال، وقد يقف عاجزاً أمام أبواب المستشفيات، حاله حال كل المواطنين العاجزين، ولو كان وجهاً معروفاً من وراء الشاشة، فيما لا تقوم الدولة بواجباتها للحفاظ على كرامة المواطن عامة، والفنان خصوصاً.
قصص الفنانين الذين سبقوا إبراهيم كثيرة، ومنها ما لم يسلط عليها الضوء فرحل أبطالها مكسوري الخاطر، أمثال الفنانات علياء نمري، وأماليا أبي صالح، وليلى كرم، وأيضاً محمود مبسوط المعروف بـ”فهمان”، والفنانة صباح التي عولجت في سنواتها الأخيرة على حسابها الخاص أو جراء مبادرات خاصة. هؤلاء وغيرهم من الفنانين لم يجدوا من يسعفهم بعد كل ما قدموه للفن والوطن.
أثناء توليه وزارة الصحة، نجح النائب وائل أبو فاعور في تأمين تغطية شاملة للفنانين على حساب الوزارة، لكن الكل يعلم أن الأزمة الاقتصادية الراهنة أسهمت في تفاقم الأوضاع ولم تعد الأموال متوافرة في الوزارة لتأمين الدعم الكافي. في هذا الإطار، أشار مدير العناية الطبية في وزارة الصحة الدكتور جوزيف الحلو إلى أن القانون اللبناني لا يميز بين المواطنين، وتكون تغطية وزارة الصحة وفق ما يسمح به القانون لأي مواطن يحتاج إلى رعاية طبية.
لكن المشكلة الفعلية للوزارة برزت عندما تراجعت موازنتها من 350 مليون دولار للطبابة قبل الأزمة إلى 20 أو 25 مليوناً. في الوقت نفسه باتت الوزارة تؤمن التغطية لنحو 60 في المئة من المواطنين بسبب الوضع المعيشي والتحديات مع باقي الجهات الضامنة. وأضاف الحلو، “كافة المواطنين يعانون اليوم، ومن ضمنهم الفنان. وفيما حرص وزير الصحة الأسبق وائل أبو فاعور على تمييز الفنان عبر تأمين تغطية صحية شاملة له، مما سمح بمساعدة كثير من الفنانين، أتت الأزمة لتلغي هذا الامتياز بسبب الوضع المالي الصعب. فأي مواطن يدفع كلفاً باهظة في المستشفى، على أمل أن تصدق الوعود وترفع التسعيرة بالدولار في مجال تغطية وزارة الصحة لتوفير الدعم لأكبر عدد ممكن من المواطنين والفنانين الذين من المفترض مساندتهم أيضاً، لكن ما أدعو إليه خصوصاً هو عدم المتاجرة بقضية فادي إبراهيم الذي أمامه مشوار طويل مع العلاج. فعلى من يرغب بتقديم يد العون أن يفعل ذلك بصمت. فمن دون شك، يستحق الفنانون كل تقدير واحترام والوزارة لا توفر جهداً لمساندتهم”.
وفيما علت أصوات عدة منتقدة عدم توفير الحكومة دعماً للممثلين في تغطية نفقاتهم الصحية، قال وزير الثقافة اللبناني محمد وسام المرتضى لوكالة الصحافة الفرنسية، إن التشريعات “لا تولي هذا الدور لوزارة الثقافة”. وإذ أشار إلى أن الوزارة “رتبت شيئاً” لفادي إبراهيم، أضاف “نحن معنيون بهذا الجانب معنوياً وليس وظيفياً”. ولاحظ أن “من لا يستطيع تأمين العناية الصحية اللازمة يعيش أزمة كرامة”، مؤكداً أن “وزارة الثقافة تحاول في هذه الظروف الصعبة أن تؤدي دوراً على مستوى الحفاظ على كرامة الفنان”.
إمكانات النقابة ضئيلة
من جهته أوضح نقيب ممثلي المسرح والسينما والتلفزيون والإذاعة نعمة بدوي في حديث مع “اندبندنت عربية”، أن الفنان فادي إبراهيم كان قد تخطى تغطية التأمين المتاحة له بسبب الكلف الباهظة لعلاجه الطويل المدى. فهو يمكث منذ ثلاثة أشهر في المستشفى ويخضع لجلسات غسل الكلى، ومن المفترض أن يبقى في المستشفى لخمسة أشهر إضافية، كما أجريت له عمليات عدة منها جراحة البتر. هذا ما أسهم في زيادة الوضع سوءاً لعدم توافر الإمكانات المادية لتغطية كل هذه الكلف وعدم توافر تغطية التأمين أيضاً، كما يحصل مع أي مواطن في مثل هذا الوضع. وتكفلت وزارة الصحة بجلسات غسل الكلى المتوجبة للفنان مرتين في الأسبوع، بما أنها تغطي كلف جلسات غسل الكلى للمواطنين عامة. أما في ما عدا ذلك، فقد أطلقت حملة لمساعدة الفنان عبر التبرعات. لا ينكر بدوي أن وزارة الصحة لم ترفض يوماً تقديم المساعدة لفنان لدى اللجوء إليها، على رغم إمكاناتها الضئيلة في السنوات الأخيرة. وقد يكون تدخلها هذا إنسانياً أكثر منه واجباً كجهة معنية بصحة المواطنين، كما حصل مع الفنان فادي إبراهيم.
أما النقابة، فلا يخفى على أحد أن إمكاناتها ضئيلة لدعم الفنانين ومساندتهم في المحن التي يمرون بها. وقال بدوي، “كان قد أنشئ قانون تنظيم المهن الفنية، محدداً دور وزارة الثقافة لجهة علاقتها بالنقابات المعنية، فانتقلت صلاحية وزارة العمل إلى وزارة الثقافة لجهة الوصاية على نقابة الفنانين. كما أنشئ صندوق تعاضد لدعم الفنانين، ويوفر لهم التأمين مع تخفيضات بنسب معينة. إلا أن المشكلة الأساسية في مداخيل النقابة من الفنانين الأجانب الذين يتهربون من الضريبة لدعم صندوق التعاضد ويتحايلون على القانون. وهذا ما يوصل الفنان إلى مرحلة القهر والعذاب عند مواجهة أزمة صحية. فتحاول النقابة بإمكاناتها الضئيلة مساعدته، ويحاول الفنانون أن يتكاتفوا لمساندة بعضهم بعضاً. من جهة أخرى، في ظل غياب الإنتاج المحلي الذي يفرضه القانون على القنوات اللبنانية، كيف للفنان اللبناني أن يعيش ويؤمن قوته؟ حتى إن الدولة لا تقوم بواجباتها تجاه كافة المواطنين، بمن فيهم الفنانون”.
وكان يفترض أن يشكل صندوق التعاضد الموحد للفنانين الذي أوجده قانون صادر عام 2008 ونظمت أعماله بمرسوم عام 2012، حلاً يوفر الدعم للفنانين، ومنهم الممثلون، إذ هو أشبه بـ”تعاونية للموظفين”، بحسب بدوي، ويقدم معاشاً تقاعدياً ومنح وفاة وزواج ومساعدات اجتماعية، ويتولى تغطية نصف سعر بوليصة التأمين الصحية للفنان ولعائلته. ويضم هذا الصندوق أعضاء ثماني نقابات فنية ويمول من استيفاء رسم ضريبي على العقود مع الفنانين الأجانب الذين يحيون حفلات في لبنان وآخر على قيمة البطاقات المبيعة للحفلات وعروض الأعمال الفنية. إلا أن سلسلة الظروف الصعبة التي شهدها لبنان منذ التحركات الاحتجاجية عام 2019، ومن بينها انهيار قيمة الليرة اللبنانية والأزمة الاقتصادية وجائحة “كوفيد-19″، “أثرت سلباً في حركة المهرجانات”، وحدت تالياً من تغذية الصندوق. وقال بدوي لوكالة الصحافة الفرنسية، “كان الصندوق يقدم مساعدة اجتماعية لمن هم فوق الـ80 بقيمة 300 ألف ليرة لبنانية، ما كان يساوي 200 دولار أميركي قبل الأزمة، لكن قيمتها الآن أصبحت ثلاثة دولارات”. ومع تحسن الجباية مجدداً وزيادة بدل الاشتراك، رفعت قيمة المساعدة إلى مليوني ليرة لبنانية، فيما تسعى النقابة إلى توفير دعم أكبر للممثلين غير القادرين على تحمل كلفة التأمين الصحي.
الحل في تطبيق القانون
وفيما من المفترض أن تكون للفنان بطاقة صحية تسمح له بالدخول إلى المستشفى عند الحاجة بطريقة تلقائية، باتت حيازتها من دون فائدة في ظل الأزمة لعدم توافر الاعتمادات المطلوبة. فبغياب نظام الحماية الاجتماعية الذي يطالب به الجميع منذ عقود، يبدو واضحاً أن معاناة الفنان اللبناني هي نفسها معاناة كل مواطن. فعلى كل فرد أن يعتمد على نفسه ويواجه التحديات، ويعتمد على مبادرات فردية وعلى التضامن الإنساني. حتى إن مكتب بدوي تحول أخيراً إلى عيادة يستقبل فيها أطباء متطوعين يقدمون معاينات مجانية لأعضاء النقابة وخدمات وفق مواعيد محددة، عله يسهم بذلك في الحد من معاناتهم. كما جهز المكتب بالمستلزمات والأدوية التي تبرعت بها جهات عدة، محاولاً خلق حالة دعم، إضافة إلى مساعيه الدائمة لتوفير فرص عمل للفنانين، خصوصاً أن كثيرين من الذين كانت لديهم مداخيل جيدة، خسروا أموالهم في المصارف تماماً كباقي المواطنين.
انطلاقاً من هذا الواقع، يطالب بدوي بتطبيق القانون على القنوات المحلية أولاً، فهو يفرض عليها تخصيص نسبة من إنتاجاتها للمسلسلات محلية، بدلاً من أن تكون كافة الأعمال التي تعرضها تركية. فهذا ما يمكن أن يوفر فرص عمل هائلة للفنانين اللبنانيين. كما تبرز الحاجة إلى قانون مهني للنقابات الفنية، أسوة بباقي النقابات المهنية مثل نقابات المهندسين والمحامين والأطباء، فيمنع عمل أي ممثل غير منتسب إلى النقابة، ويمنع الأجنبي من العمل من دون إذن من النقابة، كما في مصر. هذا بدلاً من الاكتفاء بقانون تنظيم المهن الفنية الذي يتحايل عليه كثيرون. هذه الخطوات يمكن أن تسهم في الحفاظ على حقوق الفنان اللبناني في مختلف الظروف، بدلاً من أن يصبح التمثيل مهنة من لا عمل له، ويحرم الفنان من فرص العمل.
ومن بين نحو 700 فنان منتسبين إلى نقابة الممثلين، ثمة “نسبة تراوح ما بين 15 و20 في المئة، من دون عمل، وما بين 100 و150 ممثلاً في سن متقدمة تخلى المنتجون عن خدماتهم، وباتوا من دون موارد”، وفق ما كشف بدوي لوكالة الصحافة الفرنسية.