شكل الاستهداف الإسرائيلي لمعدة عسكرية تابعة لـ”حزب الله” في منطقة القصير جنوب غربي حمص قرب الحدود اللبنانية – السورية، خرقاً للهدوء المستتب في تلك المنطقة السورية منذ توقف الاشتباكات فيها وإعلان قوات الجيش السوري و”حزب الله” السيطرة عليها في الخامس من يونيو (حزيران) 2013 بعد انسحاب قوات المعارضة.
الاستهداف الأخير ربطه مراقبون بنوايا إسرائيلية لقطع طريق حيوي لـ”حزب الله”، خصوصاً أن منطقة القصير تعتبر من نفوذ الحزب داخل الأراضي السورية وتقع قرب الحدود السورية – اللبنانية، وتعد معبراً آمناً لتمرير السلاح والمسلحين إلى الداخل اللبناني، وموقعاً استراتيجياً يسمح بمراقبة الحدود مع لبنان وقرية القصر اللبنانية في منطقة الهرمل.
وفضلاً عن كونها معقلاً أساسياً لإيران ومجموعاتها في سوريا وفي مقدمهم “حزب الله” ونقطة عبور لتهريب الأسلحة إلى لبنان، فهي أيضاً مسقط رأس العدد الأكبر من النازحين السوريين الموجودين داخل الأراضي اللبنانية، والذين لا يستطيعون العودة ما دامت طهران وحلفاؤها هم المسيطرين، وهم موزعون بين قضاء جبل لبنان وعكار وعرسال في لبنان.
وتؤكد مصادر دبلوماسية لـ”اندبندنت عربية” أن لدى الأمم المتحدة معطيات تفيد بأن العائق الأساس أمام عودة أبناء القصير ليس أمنياً بل ديموغرافي يتمثل بمشروع تغييري تقوده إيران عبر تشييع المنطقة، وهي تستقدم مجموعات شيعية للسكن فيها بدلاً من سكانها الأصليين من الطائفة السنية، في المقابل تعتبر القوى السياسية في لبنان أن استمرار المجتمع الدولي بتقديم الأموال للنازحين السوريين هو السبب الأساس وراء عدم عودة الغالبية وأن الأسباب الأمنية تطاول أقلية.
من أبراج المراقبة إلى مشروع التغيير
يعتقد كثر أن الاعتراض السوري المستجد على أبراج المراقبة المشيدة منذ أكثر من 10 سنوات ضمن الأراضي اللبنانية على الحدود مع سوريا، لا يعدو كونه محاولة إثبات وجود للنظام في منطقة حدودية لا يملك عليها أي سيادة أبداً، إذ إنها تقع ضمن نطاق “الميليشيات الإيرانية” ذات التركيبة الإثنية المتعددة، إضافة إلى أنها مقر إدارة لقضايا متعددة لـ”حزب الله”.
ويرى مراقبون أن الرسالة الاعتراضية السورية على أبراج المراقبة التي أرسلت إلى لبنان منذ أيام هي رسالة إيرانية بالدرجة الأولى وتستبق وقائياً إمكانية الحديث عن وضع أبراج مراقبة بإدارة الجيش اللبناني على الحدود الجنوبية للبنان مع إسرائيل وبالتعاون مع قوات “يونيفيل” العاملة في جنوب لبنان بما يعزز عملياً تطبيق القرار 1701 على جانبي هذه الحدود.
لكن الرسالة السورية تعبر أيضاً عن خشية جدية من قرار حاسم بتفعيل عمل الأبراج على الحدود الشمالية الشرقية بما يعزز خيار وقف التهريب بكل أنواعه، ووقف تسلل النازحين وضبط معبر أسلحة ومسلحين بات واضح المعالم، والأكثر فإن النظام السوري يخشى توقيف مصدر مالي مهم له، حيث لا تزال الحدود تشهد دخول النازحين السوريين بمساعدة النظام، عبر “الفرقة الرابعة” التي يرأسها ماهر الأسد شقيق رئيس النظام السوري بشار الأسد، لقاء بدل مالي يراوح ما بين 1000 و2000 دولار عن كل نازح.
وإذا كانت مسألة التهريب وتسلل النازحين وعبور الأسلحة والمسلحين تشكل ولا تزال هاجساً لكثير من القوى اللبنانية لا سيما السيادية منها، فإن هاجساً أكبر يطفو على السطح وهو عودة النازحين السوريين إلى بعض المناطق الحدودية في ظل ما تشهده من إعادة هندسة ديموغرافية متكاملة تعوق عودتهم. كل ذلك يدفع إلى الاعتقاد أن الوضع يميل إلى كونه اشتباكاً جيوسياسياً وليس تقنياً وقد تكون الدولة اللبنانية، لو قدر انتخاب رئيس للجمهورية لها قريباً مع تشكيل حكومة فاعلة، معنية بالضغط على الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لتأمين انسحاب إيران و”حزب الله” من منطقة القصير ونواحيها في الريف الغربي من محافظة حمص لتوفير عودة آمنة لسكانها الأصليين، كجزء أساس من الحل المطلوب لمجموعات من النازحين السوريين المقيمين في لبنان، غير المصنفين في خانة النزوح الاقتصادي إنما الأمني.
وكانت قوات النظام السوري و”حزب الله” تمكنوا عام 2013 من السيطرة على مدينة القصير ونواحيها في الريف الغربي من محافظة حمص عند الحدود مع لبنان، بعد تدمير 75 في المئة من أحيائها تدميراً كاملاً، وتهجير أهلها المقدر عددهم بـ150 ألف نسمة، وسمح خلال العام ذاته بعودة نحو 10 آلاف نسمة غالبيتهم من الأقليات، مسيحيين وعلويين وشيعة، ولم يسمح للسكان السنة الذين كانوا يشكلون الغالبية العظمى من سكان القصير (مدينة وريفاً) بالعودة على رغم محاولاتهم، وعدد كبير منهم يسكن حالياً لبنان.
القصير والخط الاستراتيجي
يعتبر الكاتب والمتخصص في شؤون الحركات الإسلامية أحمد أيوبي أن “النازحين السوريين المهجرين من القصير واجهوا الوضع الأكثر صعوبة للعودة لديارهم، لأن منطقة القصير باتت منذ لحظة سقوطها في قبضة (حزب الله) وحلفائه من الميليشيات التابعة لإيران، فما زالت صورة رفع أعلام الحزب على مساجد القصير بعد تهجير أهلها ماثلة للعيان”.
ويؤكد أيوبي لـ”اندبندنت عربية” أن المنطقة تحولت إلى ما يشبه المستوطنة التي جاءت إليها مجموعات شيعية مثل ميليشيات “فاطميون” وتزداد المساعي إلى تثبيت التغيير السكاني فيها منذ سقوطها حتى اليوم.
ويرى أن ثمة بعداً آخر في مسألة القصير، فهي تقع على خط استراتيجي يصل العمق السوري بالمناطق الشيعية في لبنان، وهو الخط الذي استكمله الحزب بفضل وصول تنظيمي “داعش” و”النصرة: (هيئة تحرير الشام حالياً) إلى جرود عرسال القاع في سلسلة جبال لبنان الشرقية، وخروجهم بباصات الحزب المكيفة ليبسط سيطرته حتى الآن على منطقة أصبحت محرمة في جرود عرسال ولا يزال أهلها يواجهون صعوبات جمة في الوصول إلى أراضيهم ومقالعهم على رغم انتهاء وجود التنظيمات الإرهابية في المنطقة منذ سنوات.
ويشرح أيوبي أن أبرز ما اتسمت به حرب النظام السوري ضد الغالبية الشعبية المنتفضة في وجهه كان التغيير الديموغرافي الذي اعتبر رئيس النظام بشار الأسد أنه جعل السوريين “أكثر انسجاماً بعد الحرب”، ويعتبر أن الإشكال الأكبر أن الدول الكبرى تتعامل مع ملف اللجوء عموماً على أنه مسألة قابلة للتأجيل سنوات، ومن ثم فإن العودة الطبيعية إلى الأماكن التي لم تتعرض للتغيير الديموغرافي صعبة، فكيف الحال في المناطق التي تحولت إلى مستوطنات؟
ويرى المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية أن “محاولة الدول العربية دفع النظام نحو تسوية سياسية من شروطها عودة اللاجئين السوريين إلى بلدهم قد فشلت، ومن ثم ليس هناك أي جهد أو ضغط يمارس لفرض حق العودة، لذلك فإن العوامل الخارجية والداخلية تعرقل أي طرح للعودة، بينما يتحمل لبنان الأعباء الثقال التي تحمل تهديداً وجودياً له على جميع المستويات”.