لكن، وجدت نفسي تلقائياً شريكاً ولو من بُعد للمحتجين الصيداويين على قمع حرية السيدات في ارتداء لباس البحر على شاطئ صيدا، ربما لأنني نشأتُ في المدينة وشرقها المحاذي وأحنُّ الى مساهماتي المتواضعة بهتافات شوارعها في السبعينات ضد “طغمة الـ 4 في المئة” واعتداءات إسرائيل، وتَرسَّخ عندي انطباع تحفُّز نخبها الدائم الى التزام القضايا المحقة والعدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية والتطلّع الى العلمنة.
صيدا ليست كلها ذاك الشيخ المتشدد وصحبه الذين تظاهروا أمس ضد المدافعين عن الحريات بعدما اعتدى أترابهم على حرية سيدة وزوجها قبل أسبوعين، لكنها تتعايش منذ نحو خمسة عقود، بنوابها وقواها السياسية ومواطنيها، مع ما فرضه هؤلاء من منع للكحول وتقييدٍ لحقوقٍ بديهية لم يجرِّمها القانون الوضعي الذي يحكم اجتماعنا في لبنان.
واقع الأمر أنني راقبت أمس ظاهرتين لا يمكن تجاهل العلاقة الوثيقة بينهما. الأولى، تلك اللافتة التي رفعتها بلدية صيدا ووزارة الأشغال على مدخل “المسبح الشعبي”، وهي بمثابة مدوَّنة سلوك للسابحين والسابحات جاء في أحد بنودها فرض “اللباس المحتشم” على النساء. والثانية، ذاك العرض العسكري في عرمتى الجنوبية والذي شاءه “حزب الله” إعلاناً صارخاً لخيار المجاهرة بالسلاح في وجه من يطالبه بالانضواء في كنف الدولة، قبل الذين يطالبونه بنزع سلاحٍ حَلَّهُ “الطائف” وألغاه القراران 1559 و1701 وتحوَّل جزءاً من معادلة المغالبة الداخلية بعدما استنفد أغراضه بالتحرير و”الترسيم”.
لا أستسهل الاستسلام. لكن تجاربنا مع فكرة الاندماج في ظل المواطنية والمساواة ودولة القانون باتت مثاليات مخيبة للآمال، وربما آن أوان الاعتراف بأن اللامركزية الموسّعة التي تلقى شبه إجماع، لم تعد كافية لحلّ مشكلة النظام السياسي و”العيش المشترك” في لبنان. وبعيداً عن تفاهات “التعددية الحضارية” المتضمنة كلّ مواصفات العنصرية أو “التعددية الطائفية” الطاردة للمختلِف في العقيدة والقناعات الايمانية، وغيرها من التعريفات، صار ضرورياً التفكير بـ”لامركزية جغرافية” منفتحة تعبّر عن “نمط حياة” جماعات يختار أي لبناني العيش في ظلها، على أن تبقى بيروت عاصمة الدولة ومؤسساتها الضامنة للاتحاد.
اختارت الأكثرية الشيعية في الجنوب والبقاع الحد الأقصى من مواصفات استقلالية الكانتونات، بحيث إن “حزب الله” هو دولتها الفعلية بالممارسات والعادات وضوابط الحريات والأمن والعلاقات الاقليمية والدولية حتى ولو تستّر بالمؤسسات الشرعية. وأكثريات المدن السنية تعيش حال انفصام. فهي تريد العيش في ظلّ الدولة والشرعية لكنها تفرض لامركزية أخلاقية وذمّية هي عملياً نمط سلوك وحياة. وفي حالة صيدا تحديداً، فإن ذلك لا يناسب سكان المدينة جميعاً ولا جوارها المختلف طائفياً، والأخطر ان سلطات البلدية المنتخبة تفرضه على مرفقٍ رسمي هو “المسبح الشعبي”. إنّه نمط يتمدّد الى الفضاء الخاص عبر استبطان القمع والخضوع لتحليلٍ وتحريم لا يخطران على بال، حتى ولو أنّه موضع احتجاج واستنكار.
واقعتا عرمتى وصيدا معبّرتان. فهما نموذجان متقاطعان لا تلغي مفاعيلهما اعتراضات مجموعات “دولتيّة” تحب الحياة المدنية وتتمسّك بالحريات الشخصية والعامة وما يتناسب مع ثقافة الانفتاح والعصر الحديث. وإذ إنّ تغيير الأكثريات المهيمنة صعب المنال كونها تعبّر عن واقعٍ ديموغرافي واجتماعيّ راسخ، فإنّ موقع الأقليات يجب أن يكون في المكان الذي ترتاح فيه، أو ترغب في التبعية له.
هذا نقاش يجب أن يخاض بلا عقد وعلى كلّ المستويات. وقد يكون حدَثَا عرمتى وصيدا دافعاً لتحويله مشروع نضال