أعلنت منظمة الصحة العالمية عن انخفاض عدد المدخنين البالغين في العالم، للمرة الأولى في تاريخها، في التقرير الأخير لها عن اتجاهات استهلاك التبغ. وسُجّل انخفاض بمقدار 19 مليون مدخن بالمقارنة مع ما كانت عليه الأرقام قبل عامين، وهي المرة الأولى التي يحصل فيها هذا التراجع. يدل ذلك على أن معدل استهلاك التبغ عالمياً انخفض من شخص واحد بين كل ثلاثة بالغين في عام 2000، إلى شخص واحد من خمسة بالغين في عام 2022. وبقيت أفريقيا في مركز الصدارة من حيث انخفاض معدلات استهلاك التبغ، فتدنت النسبة من 18 في المئة في عام 2000 إلى 10 في المئة في عام 2022. واللافت أن البلدان ذات الدخل المتوسط هي التي شهدت أسرع معدلات انخفاض في استهلاك التبغ، فيما شهد إقليم جنوب شرقي آسيا أعلى معدلات تدخين. وظهر في التقرير أن 150 دولة نجحت في الحد من استهلاك التبغ. وبشكل خاص، سُجّل نجاح لافت في البرازيل وهولندا، فحققت البرازيل انخفاضاً بنسبة 35 في المئة من عام 2010، وتكاد تصل نسبة انخفاض الاستهلاك في هولندا إلى 30 في المئة. لكن في مقابل هذا التقدم اللافت في مكافحة التدخين في العالم، أشارت الإحصاءات الرسمية الصادرة عن منظمة الصحة العالمية لعام 2023، إلى أن لبنان يحتل المرتبة الأولى بين الدول العربية مع أعلى نسبة مدخنين قياساً إلى عدد السكان، وتصل إلى 42.6 في المئة. وفي حين استطاعت دول عدة أن تحقق تقدماً بارزاً في مكافحة استهلاك التبغ، لا تزال معدلات التدخين في ارتفاع متزايد في لبنان. فأين الحكومة اللبنانية من الاستراتيجيات الهادفة إلى مكافحة التدخين وتجارب الدول التي حققت نجاحاً في هذا المجال؟
محاولات مصيرها الفشل
لا تتوافر إحصاءات وأرقام دقيقة تظهر معدلات التدخين، لكن تُسجّل بالفعل في لبنان أعلى معدلات تدخين. أما الاستراتيجيات الهادفة إلى مكافحة التدخين، فيصفها رئيس “اللجنة الوطنية لمكافحة السرطان” الدكتور عرفات الطفيلي بـ”الكارثية” في حديثه لـ “اندبندنت عربية”، مشيراً إلى أن “محاربة التدخين الفاعلة تتطلب خطوتين أساسيتين لا غنى عنهما، وهما فرض الضرائب على التبغ والتوعية. وهما خطوتان متلازمتان ولا يمكن أن تنجح إحداهما من دون الأخرى”. ويضيف “في لبنان، تتكثف الجهود لنشر الوعي حول أخطار التدخين، وتنطلق خلال أيام حملة وطنية لهذا الهدف بالتعاون مع وزارة التربية. على رغم ذلك، لا يمكن تحقيق أي تقدم في مجال مكافحة التدخين، طالما أنه لم تُقر الضرائب على التبغ بسبب مصالح سياسية وحفاظاً على أرباح جهات معينة. وبالتالي، تذهب كافة الجهود التي تُبذل منذ سنوات في هذا المجال سدىً، بما أن هذه الخطوة تُهمل. حتى أن القانون 174 للحد من التدخين في الأماكن العامة، فشل في الحد من هذه الآفة بعد إقراره، بما أنه لم يُطبَّق أصلاً”.
بشكل عام، يعود نجاح تجارب الدول التي استطاعت أن تخفض معدلات التدخين لديها إلى منع الإعلانات الترويجية للتدخين، وفرض الضرائب على التبغ، والتوعية حول أخطار التدخين، إضافة إلى منع التدخين في الأماكن العامة. وهذه الإجراءات كلها غير موجودة في لبنان طبعاً، فكيف له أن ينجح في محاربة التدخين؟ لذلك، تُعتبر الحملات والبرنامج الوطني لمكافحة التدخين في غاية الأهمية، لكنها تبقى إجراءات ناقصة في حال عدم الحرص على بقية الخطوات الأساسية. لذلك، يحذّر طفيلي من “هذا الوضع الذي يضع لبنان في مواجهة تسونامي من أمراض الرئة على اختلاف أنواعها”. فمن المتوقع أن يسجّل هذا البلد ارتفاعاً كبيراً في معدلات الإصابة بالسرطان خلال حوالى عشر سنوات أو 15 سنة نتيجة هذا الارتفاع المقلق في معدلات التدخين. كما هناك ارتفاع ملحوظ في معدلات الإصابة بسرطانات الرئة والمثانة بشكل أساسي، لارتباطهما الوثيق بالتدخين، إضافة إلى سرطان البنكرياس. كما تُسجَّل زيادة في أمراض الأنف والأذن والحنجرة، وأمراض الرئة عامةً.
في غياب الالتزام
كذلك، تشير رئيسة “الجمعية اللبنانية للأمراض الصدرية” الدكتورة سيلين بعقليني إلى أنه “على رغم عدم توافر الإحصاءات، من الواضح أنه ثمة ارتفاع ملحوظ في معدلات الإصابة بالسرطان، كما يظهر في المعاينات الطبية. واللافت هو التطور السريع في الحالات، والإصابة بها في سن مبكرة، وبلوغها مراحل متقدمة، وعدم تجاوبها مع العلاجات كما هو متوقع، في ما يتعلق بالسرطانات التي ترتبط بالتدخين كسرطانات المثانة والرئة والبنكرياس. كذلك بالنسبة إلى الأمراض الصدرية التي تبدو أكثر تطوراً وتزيد مضاعفاتها، حتى في حال الإصابة بها في سن مبكرة. فلوحظ أن معدلات الدخول إلى المستشفيات تزايد بسبب تطور حالات الإنفلونزا والنزلات الرئوية. كما ترتفع حالياً معدلات الإصابة بالانسداد الرئوي المزمن المرتبط مباشرة بالتدخين”.
في الواقع، ليس هناك في لبنان أي التزام بقانون منع التدخين في الأماكن العامة وهذا ما يعتبر مشكلة حقيقية للمستقبل. فالتدخين بأنواعه مسموح في مختلف الأماكن من دون ضوابط، وهذا ما يجعل الوضع كارثياً. أما تدخين النرجيلة فآفة حقيقية في المجتمع. وتضيف بعقليني أنه “على رغم المحاضرات التي نحرص على إجرائها في المدارس والجامعات، تبدو معدلات التدخين، خصوصاً في ما يتعلق بالسيجارة الإلكترونية، صادمة فعلاً. لكن لا يمكن لوم الأطفال هنا، فمن المؤكد أنه ثمة مسؤولية كبرى على عاتق الأهل بغياب الوعي. هناك لوم على مختلف الأطراف المعنية في المجتمع. وفيما حققت دول أخرى نجاحاً بارزاً في مجال مكافحة التدخين، يبدو الوضع معاكساً في لبنان حيث يُسجَّل تراجع ملحوظ كما يبدو واضحاً من خلال ارتفاع معدلات الإصابة بسرطان الرئة في سن مبكرة لارتباطه الوثيق بالتدخين. أما حملات التوعية، فقد لا تكون مجدية ما لم تطبَّق القوانين التي تمنع التدخين في الأماكن العامة كما في الدول المتقدمة التي نجحت في خفض معدلات التدخين لديها. على المواطن أن يدفع الضرائب، وإلا سيستمر بالتدخين بحرية تامة، طالما أن السجائر غير مكلفة ولا ضرائب عليها”.
التدخين الإلكتروني خطر آخر
وكانت منظمة الصحة العالمية قد حذرت من تدخين السجائر الإلكترونية الذي ترتفع معدلاته بين الأطفال والمراهقين في العالم. وتصل نسبة أولئك الذي يدخنون السجائر الإلكترونية وتراوح أعمارهم بين 13 و15 سنة إلى 37 مليون شخص. في لبنان أيضاً، الخطر الأكبر هو في ارتفاع معدلات التدخين الإلكتروني بين المراهقين والشباب بما أن الشركات المنتجة تعوّل على هذه الفئة العمرية، وتعتبر المراهقين “زبائن المستقبل”. في الواقع، يعتبر المستقبل قاتماً ومقلقاً أكثر بعد بسبب ارتفاع معدلات التدخين في سن مبكرة. ويعتبر التدخين الإلكتروني مسموحاً أكثر بعد في كل مكان، ما يزيد من معدلات انتشاره. ويلقى رواجاً بشكل خاص في فئة الشباب، خصوصاً مع الترويج له بطريقة جذابة ولافتة لهم. كما أنه ثمة اعتقاد بأن السيجارة الإلكترونية قد تكون أقل ضرراً من السجائر التقليدية، فإذا بكثيرين يجدون فيها البديل.
وتعتبر بعقليني أن “أضرار السجائر التقليدية باتت معروفة، فيما لم تتضح بعد أضرار التدخين الإلكتروني. وبغياب الضوابط من الطبيعي أن ترتفع معدلات استهلاكه ما يزيد من أضراره، كما أصبح واضحاً. إذ تبين أن التدخين الإلكتروني قد يكون أكثر خطورة وضرراً من التدخين التقليدي”. إنما في كل الحالات، تؤكد بعقليني أن “كافة أنواع التدخين تُعتبر مضرة للرئتين والصحة عامةً، ولو بدرجات متفاوتة. وما هو مؤكد أن السيجارة الإلكترونية ليست حلاً أو بديلاً عن التدخين التقليدي للإقلاع عنه، وهي ليس عبارة عن دواء يمكن اللجوء إليها في هذه الحالة، كما يعتقد كثيرون ممن يبررون لجوءهم إلى التدخين الإلكتروني بهذا الشكل”.