ومن لبنان يطرح المثلث ورقة استعمال على طاولة التوتير أو التفاوض، تكرس احتلالاً اسرائيلياً لا تنقصه شهية التوسع، فقد أدى الانسحاب الإسرائيلي المفاجئ من جنوب لبنان قبل 23 عاماً إلى إرباك كبير في أوساط نظام الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد قبيل شهر من وفاته، وكانت سياسة دمشق تقوم على ما تسميه وحدة المصير والمسار بين لبنان وسوريا في ما يتعلق بالصراع مع إسرائيل، وانطلاقاً من هذا المبدأ الذي صاغه الأسد بعناية وعمل على تكريسه إلى الأبد، جرى ربط ضمني بين الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني واحتلال الجولان، ولم يكن مستساغاً أن تنسحب الدولة العبرية من لبنان من دون شروط وحتى من دون تفاوض مع دولة الوصاية السورية، فيما يستمر الجولان أرضاً محتلة وجزءاً من إسرائيل بمقتضى قانون ضمه عام 1981.
أثارت القيادة السورية مسألة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا قبل أسابيع من موعد الانسحاب إضافة إلى الجزء المحتل من قرية الغجر بالقول إن “الانسحاب الإسرائيلي لم يكن كاملاً وبالتالي فإن المعركة مع الاحتلال لم تنته، مما يستوجب استمرار ’حزب الله‘ في مقاومته وإبقاء لبنان جبهة مفتوحة” .
لم تكن المفارقة في استمرار احتلال تلك الأجزاء من الأراضي وإنما في تبعيتها لسوريا، فالتلال والمزارع في كفرشوبا وشبعا يملكها لبنانيون لكنها تتبع الجولان المحتل، والغجر بسكانها جزء من الجولان، وقد جرى احتلالها كقرية في حرب يونيو (حزيران) 1967، أما الأراضي الشمالية المحاذية فهي جزء من لبنان وفي شأنها يدور جدل لا داعي له.
ويروي أبناء الغجر أن قوات الاحتلال تجنبتها عام 1967 باعتبارها بلدة لبنانية، ثم عادت واحتلتها بوصفها سورية تابعة لمحافظة القنيطرة في الجولان، والسكان وجميعهم من الطائفة العلوية كان تعدادهم يومها نحو 600 نسمة استناداً إلى آخر إحصاء رسمي سوري عام 1960، بعضهم انتقل إلى سوريا ومن تبقى منهم استمر في أرضه إلى أن فرضت عليهم إسرائيل جنسيتها غداة قرارها ضم الهضبة السورية.
وزاد عدد السكان منذ ذلك الحين وبات عددهم يناهز اليوم 3 آلاف نسمة، وخلال الاجتياحات الإسرائيلية للبنان منذ عام 1978 ثم الاحتلال المديد حتى عام 2000، بنى الغجريون السوريون من حملة الجنسية الإسرائيلية منازل إضافية في الأراضي الشمالية للبلدة التي هي جزء من الأراضي اللبنانية، وبات على لبنان أن يتحمل مسؤولية مواطنين سوريين يحملون الجنسية الاسرائيلية ويقيمون في داخله، وتصنفهم إسرائيل كـ “مواطنين إسرائيليين يقيمون على أرض العدو”.
ويقول علي الخطيب، أحد سكان الغجر، “لم نكن نعرف من نحن، هل إسرائيليون أم لبنانيون أم سوريون؟ لقد كانت فوضى كبيرة، وأرادوا بعد حرب 1967 الانضمام إلى لبنان لذلك فكرت في ذلك الوقت، حسناً أنا لبناني الآن، ثم قالوا نحن ذاهبون إلى سوريا وظننت أنني سوري، ولكن بعد ذلك قالوا إن إسرائيل تريد أن تبقينا، وبمرور الوقت حصلنا على حقوق هنا في إسرائيل وبدأنا في دفع الضرائب وحصلنا على هويتنا الزرقاء، وبدأت أعرّف نفسي على أنني إسرائيلي”.
قد لا يريد الغجر التخلي عن سوريتهم وهم يبدون اهتماماً خاصاً بتطوير بلدتهم التي تحولت أخيراً إلى مركز استقطاب سياحي، لكنهم كما يقولون لا يريدون الالتحاق بلبنان ولا هو يريد ذلك، والمشكلة المطروحة الآن أن جزءاً منهم يقيم على أرض لبنانية بمقتضى خط الانسحاب الإسرائيلي عام 2000، وهذه الأرض لبنانية وستبقى، لكن السلطات اللبنانية لم تفعل شيئاً لحفظها بعد الانسحاب عام 2000 ثم بعد صدور القرار (1701) في أعقاب “حرب تموز” 2006.
لقد فرض ذلك القرار تولي الجيش اللبناني وقوات الطوارئ الدولية الأمن في المناطق الجنوبية، وكان يفترض أن يمسكا على الفور بالنقاط الحدودية كافة، بما في ذلك الجزء اللبناني من أراضي الغجر، لكن ذلك لم يحدث وأبقيت تلك المنطقة إلى جانب التلال والمزارع أشبه بمسمار جحا في مشاريع الحرب والسلام.
ضجت وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة بأخبار القرية العجيبة، ولم يصدر موقف سوري رسمي للتذكير بحق سوريا في الغجر وحق سكانها بالتحرر من الاحتلال والعودة للوطن الأم، مثلما لم يصدر أي موقف في شأن مزارع شبعا وتلال كفرشوبا.
تواطأ كثيرون للإبقاء على زاوية مثلث الحدود اللبنانية – السورية – الفلسطينية حالاً غريبة وحقل تجارب للتوترات المدروسة، وحال بلدة الغجر السورية المحتلة مع لبنان تشبه حال مزارع شبعا اللبنانية مع سوريا، ويجمع بين المنطقتين احتلال إسرائيلي، ففي الغجر أملاك سورية على أرض لبنانية تعترف الأمم المتحدة بتبعيتها للبنان، وفي تلال شبعا مزارع لبنانية على أرض سورية تعتبرها إسرائيل جزءاً من الجولان وتنتظر ترسيماً للحدود بين لبنان وسوريا، وإبلاغاً رسمياً سورياً للأمم المتحدة بملكيتها أو عدم علاقتها بتلك المنطقة، ليتمكن لبنان بالتعاون مع المنظمة الأممية من بت مصيرها .
وحتى ذلك الحين تتواصل لعبة الشد والجذب في مثلث الحدود، وتبدو الأطراف المعنية مرتاحة إلى لعبة تبادل الردع في مساحة باتت متنفساً لاحتقان مديد.
وفي الأثناء يستمر الطرف الإسرائيلي في تعزيز حضوره محتمياً بتقصير ولامبالاة دولتي لبنان وسوريا غير المبرر، فقد كان الأجدر أن تتقدم مؤسسات السلطة اللبنانية فتمسك بحدودها في الغجر بيدها، ولا يزال الأمر متاحاً، فتنتهي قصة البلدة العجيبة وهي الأبسط، وتتابع في الوقت نفسه مسألة المزارع والتلال المحتلة مع سوريا والأمم المتحدة، لكن ذلك يبدو ممنوعاً حتى اللحظة، فهذه الزاوية الواقعة في قلب “صراع الشرق الأوسط” مطلوب منها كما يبدو أن تبقى اختصاراً رمزياً غرائبياً لذلك الصراع.