وبات السؤال البديهي والدائم في الأوساط المالية والعلمية بلبنان: متى يعاود الدولار مساره الصعودي، وما الكلفة الحقيقية للحفاظ على استقرار احتياطي السوق من العملات الأجنبية وأموال المودعين؟
الاستقرار الظرفي
قبل عام، بلغ متوسط سعر صرف الدولار الأميركي في السوق الحرة خلال مايو (أيار) 30 ألف ليرة لبنانية، قبل أن يواصل مساره التصاعدي ويصبح نحو 95 ألف ليرة في مايو 2023. تظهر المقارنة الحاضرة كيف تضاعف سعر الصرف الدولار أكثر من مرتين خلال عام واحد. ومن ثم مخاطر أن يتضاعف مرة ثالثة خلال الفترة المقبلة حال لم يوضع قطار الإصلاح على السكة.
ينظر الاقتصاديون بكثير من الريبة إلى استقرار سعر صرف الدولار، فهو إجراء مكلف للغاية، ونتائجه محدودة.
وترى الاختصاصية بالاقتصاد النقدي ليال منصور أن المصرف المركزي تدخل لسحب نحو 6-7 تريليونات ليرة لبنانية، وهو إجراء كفيل بخفض سعر صرف الدولار من مستوى يفوق 100 ألف ليرة، إلى نحو 95 ألف ليرة، وهو في المقابل اضطر لضخ كميات كبيرة من الدولار الأميركي، متسائلة “هل يوجد لدينا باستمرار مبالغ كبيرة من الدولار لتغطية حاجة السوق؟”.
وتجزم منصور أنها “عملية موقتة، لأنه في المقابل يستمر المصرف المركزي بطباعة الليرة”، وعليه “لا يمكن أن يستمر الدولار بالانخفاض وسيعاود الارتفاع، لأنها مسألة وقت”.
وتعتقد أن الدولة لم تصرف زيادات أجور القطاع العام من أجل إبطاء التضخم المتسارع، وانهيار الليرة مقابل الدولار، حيث يتدخل مصرف لبنان بين فترة وأخرى في السوق وضخ الدولارات، لكن تلك السياسة مكلفة، ولم تعد لها قيمة.
الصرافون وصيرفة
اعتمد المصرف المركزي على شبكة من الصرافين ومنصة صيرفة لامتصاص الليرة اللبنانية من الأسواق.
وتوضح دراسة أعدها الباحث الإحصائي عباس الطفيلي أن حجم التداول عبر منصة صيرفة التي يديرها مصرف لبنان بلغ نحو 4568.6 مليون خلال الأشهر الأربع الأولى من العام الحالي 2023 على متوسط سعر 62 ألف ليرة لبنانية. ويعتقد أنه بدءاً من منتصف فبراير (شباط) أمسك المصرف المركزي بالسوق، في موازاة إلقاء القبض على بعض الصرافين الكبار، لافتة “تأتي المبالغ التي ضُخت في السوق من مصدرين، ما يشتريه من السوق، وجزء آخر من الاحتياطي”.
الدولار السياسي
تتضح مساهمة صيرفة في تهدئة السوق، لكن في المقابل تطلق جهات مختلفة تطمينات بأن الدولار سيتراجع عند إتمام التسوية السياسية، وتقاسم السلطة.
وترفض ليال منصور صبغ المسار التصاعدي للدولار بالصبغة السياسية، ففي الحالة اللبنانية لا يتأثر بانتخاب رئيس أو تشكيل حكومة، لأن هناك مشكلات بنيوية في الاقتصاد، مشيرة إلى أن “سعر الدولار لم يتأثر بإصدار لائحة توقيف بحق رياض سلامة، لأن يمكن اعتبار تلك الادعاءات صحيحة في نظام مغاير للبنان”.
وتتمسك منصور بأن “التلاعب بسعر صرف الدولار وكبحه لن يحول دون عودة الدولار إلى مساره الصعودي”، مضيفة أن “سعر الدولار مؤشر إلى الوضع الاقتصادي السيئ، وغياب السياسات النقدية، والاقتصادية، والضريبية على مستوى الاقتصاد الكلي”، و”استراتيجية اللامبالاة لدى صناع القرار اللبنانيين”.
وتعتقد أن الدولار يستمر بالمسار من دون سقف بسبب انعدام الثقة بالليرة اللبنانية، حيث يمكن أن نرى الدولار بمئات الآلاف وربما الملايين مستقبلاً.
الدولار الاستهلاكي
قاد اضطراب سوق الصرف والانهيار المستمر لسعر صرف الليرة إلى إقرار الحكومة بسياسة التسعير بالدولار، وسمحت وزارة الاقتصاد لأصحاب السوبر ماركت بتحديد أسعار السلع بالدولار الأميركي بحجة الحفاظ على الاستقرار ومنع التلاعب. وهو ما شكل خطوة إضافية نحو الدولرة الشاملة التي تتميز عن سياسات الدولرة التي اتبعت في لبنان طوال أربعة عقود، بأنها تعتمد الدولار الأميركي معياراً للسوق.
وتتنبأ منصور بـتعمق الدولرة الشاملة على حساب العملة الوطنية، ولا تستبعد استغناء اللبناني عن العملة الوطنية بالكامل، وهو ما نراه في التعاملات اليومية من خلال الاعتماد التام على الدولار الأميركي من دون استثناء، ناهيك بتوجه الدولة اللبنانية إلى دفع الأجور والتقديمات لموظفيها بالدولار، وإن كانت بتسميات مختلفة من أجل تخفيف وطأة الانهيار المالي المتسارعة وتراجع قيمة الأجور بالعملة الوطنية.
وتعتقد منصور أن تلك السياسة مدخل لحل الأزمة اللبنانية، لأن “الدولرة لا تحتاج إلى دولارات أكثر من تلك التي نمتلكها في سياق الإصلاحات وإعادة الثقة”.
كما تتوقع أن استمرار الاعتماد على العملتين الوطنية والدولار، سيقود إلى اضطراب مستمر في سوق الصرف اللبنانية، ومن ثم سيضغط ارتفاع الدولار على الحالة النفسية للمستهلك اللبناني.
في المقابل، يبرز الحديث عن دور تحويلات المغتربين في الحفاظ على انضباط سعر الصرف، توضح منصور أن “دولارات المغتربين هي دولارات استهلاكية، وليست استثمارية، وتستعمل للبقاء وشراء الطعام والشراب واللباس، لكن لا يمكنها تكبير حجم الاقتصاد.
وترى أنه لا بد من إدخال الاستثمارات الأجنبية المتصلة بخلق الوظائف والقوانين والتغييرات السياسية”، كما تنوه في المقابل إلى صعوبة استعادة الودائع الدولارية المحجوزة لدى المصارف التجارية في لبنان.