الجنوبيون اليوم هم عنوان الصمود في أرض الجنوب المقدسة. هذه الأرض التي زارها يسوع المسيح، وشرب من بئر المرأة الكنعانية في صيدا، وجال في سهول صور، وعلى طريق مرجعيون، وصولاً إلى ساحل منطقة الزهراني حيث كانت تنتظره أمّه مريم العذراء في إحدى مغاور بلدة مغدوشة. لقد تجاوز الجنوبيّون الاحتلالات كلها؛ وهم اليوم يعيشون معاً، كل بحسب طريقة عيشه المميز، على قاعدة حسن الجيرة.
لا يعيرون أي أهمية للاعتداءات المتكررة التي تحصل عليهم، ولا يتّخذون أي مبادرات فردية على قاعدة الثأر لأنهم أقوياء بوجودهم الحر. يواجهون ببسالة عندما لا تحميهم الدّولة متجاوزين حواجز الاختلاف مع الآخر من دون أي خلاف كيانيّ لأنهم مؤسساتيون يحتكمون إلى دولة المؤسسات، بغض النظر عن تحفظاتهم على مؤسسة ما بهذه الدولة التي ليسوا مستعدين لمبادلتها بدويلة، في الأمر الواقع.
لقد تميّز الوجود المسيحي الحر في الجنوب بتلك الصورة الحضارية إن من حيث الحياة الثقافية أو الاجتماعية أو التعليمية التعلّمية التي انتهجها الجنوبيون، لأنّ الواقع المجتمعي حتّم عليهم صموداً من نوع آخر، من خلال تأمينهم لمستلزمات العيش الكريم في الأرض التي أحبوها حتى الشهادة، من عين إبل إلى رميش ومرجعيون وجزين وصور ومغدوشة والدّساكر والقرى التي ربض فيها المقاومون، فنقبوا الأرض وزرعوها ليؤمنوا مستلزمات وجودهم وعيشهم الكريم.
ذاقوا الأمرّين في مأساة التهجير التي أصابتهم في شرق صيدا في العام 1985، لكنهم عادوا إلى أراضيهم وبيوتهم لأنهم رفضوا الاستسلام والتسليم، فبنوا من جديد ما هدّمته أيادي الحاقدين، سواء كانوا من الأغراب أم من الأتراب. شكّلوا الأندية الرياضية والثقافية، والجمعيات الإنسانية، وتكودروا في الأحزاب السياسية التي تحفظ وجودهم الحر في تلك الأرض، وأولها حزب “القوات اللبنانية” الذي لم يوفر أّي جهد سياسي ليؤمن ديمومتهم في هذه الأرض. كما أنّه سعى في المساعدة لتأمين بعض الضرورات الحياتية، وذلك كله انطلاقاً من فلس الأرملة، عسى يستطيع أن يساهم، ولو بمقدار حبّة تراب في الصمود والبقاء.
واليوم في ظلّ هذه الأزمات الوجودية، يستمر الجنوبيون الأحرار في صمودهم باعتمادهم على الدولة وحدها، وعند المواجهة لا يوفرون دماءهم في سبيل بقائها واستمرارها لأنها ضمانة وجودهم الوحيدة، وهم يدركون جيداً أن الضلالة الكيانيّة التي نجح حزب إيران في لبنان باختطاف بعض من جيرانهم في الأرض، عقائدياً وإيديولوجياً في محاولة لاقتلاعهم من الكيانيّة اللبنانيّة، إنما ذلك مؤقتاً. مهما طال الزمن، ومن هذا المنطلق الإيماني بالإنسان والأرض والحرية يستمرون في نضالهم وصمودهم إلى المنتهى ليخلصوا ويخلّصوا معهم المؤمنين بلبنان.
هذا الصمود الجنوبي الحقيقي جعل من مدينة صور لؤلؤة المتوسّط، ومن بلدة مغدوشة معلماً دينياً عالمياً حتّى أدرجها الفاتيكان على لائحة الحج العالمي. أمّا جزين، عروس الشلال، فعادت بقدرة ربّ القوّات وعزيمة أهلها الأحرار بشيبهم وشبابهم، مصيفاً ومقصداً من كل مكان. هذه المنطقة الأبيّة التي تعرف محاسبة مَن تختارهم ليمثّلوها، حاسبتهم عندما حاولوا اختطافها وإخراجها من قلب جبل لبنان، وانتفضت في انتخابات العام 2022 فاستعادت كرامتها المخطوفة، وتمثيلها السياسي الصحيح.
الصمود الجنوبي هو صمود لبنان الذي نريده وطناً للبنانيّين جميعهم، ولا يمكن أن يكون غير ذلك. أمّا أولئك الذين يريدون لبنان على شاكلة عقيدتهم الإيديولوجية، فهم لا يشبهون تاريخنا في هذه الأرض، وهم حتمًا إلى زوال، لأنّهم وضعوا يدهم بيد مَن يدّعون أنه الشيطان الأكبر، ووقعوا معه معاهدة السلام الصامت مقابل أن يمنّ عليهم باستمرارية مؤقّتة في بلد الأرز.
أمّا نحن فاستمرارنا وبقاؤنا في الجنوب نابع من قدرتنا على التواصل مع الآخر المختلف، من دون أن نسفك دمه أو نخوّنه أو نأسرله أو نأمركه. نحترم وجوده. ونعيش معه تحت سقف الدولة والقانون والمؤسسات، الضامن الوحيد لنا جميعاً. هكذا حافظنا على وجوديّتنا في الجنوب أحراراً ومن دون أن نحني رؤوسنا لأحد كي يمنّ علينا بنعمة الوجود الحر. بنهاية المطاف، خلقنا الله أحراراً في الجنوب، ولن نبادل حرّيتنا أو قناعاتنا مقابل أن نبقى ذمّيّين، بل سنبقى في أراضينا الجنوبية، لو نصبوا فيها صواريخ الطواغيت كلّها، ومنعونا إلى حينٍ من استثمارها.
فالأرض لنا. ونحن أبناء الرجاء والحياة والأمل. لأننّا نحن أهل الأرض وترابها، فيها باقون كما في لبنان كلّه، لتبقى لنا ولجنوبنا ولوطننا الحرية.