مرة جديدة، تخلّف حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة عن حضور جلسة اتهامية بحقه في بيروت.
وكان من المفترض أن يمثل سلامة أمام الهيئة الاتهامية المكلفة النظر في ملف الدعوى، الثلاثاء، لكن وكيله أقدم على خطوة فاجأت الحميع: التقدّم بدعوى مخاصمة للدولة.
وأصدرت الهيئة الاتهامية قراراً “برفع اليد” عن متابعة النظر في توقيف رياض سلامة.
ويواجه رياض سلامة و شقيقه رجا تهماً بالإثراء غير المشروع والاختلاس.
وادّعى القضاء اللبناني رسمياً على سلامة في مارس/آذار بعد تغيبه ثلاث مرات عن جلسات التحقيق.
كما أصدرت كل من ألمانيا وفرنسا مذكرة توقيف دولية بحقه، عقب تحقيقات حول شبهات فساد تتعلق بنشاطات سلامة في أكثر من دولة أوروبية.
وفرضت كل من بريطانيا والولايات المتحدة وكندا، عقوبات مالية على سلامة وشقيقه للأسباب ذاتها.
“ضربة معلم”
تغيّب سلامة أكثر من مرة عن حضور جلسات الاستدعاء، ولم تصدر أي مذكرة توقيف بحقه، بعد.
ووصفت بعض الصحف اللبنانية، الخطوة الأخيرة التي أقدم عليها سلامة برفع “دعوى مخاصمة الدولة”، بأنها “ضربة معلم”، وقد تعني قدرته على الإفلات من المحاسبة.
وجاءت دعوى “مخاصمة الدولة” بحسب وكيل سلامة، على خلفية ما اعتبره مخالفات ارتكبها قضاة أثناء التحقيقات، وفق ما ذكرت وسائل إعلام محلية.
واجتمعت الهيئة الاتهامية بعد تبلغها دعوى المخاصمة، وأعلنت عن قرارها وقف متابعة عملها في ما يخص رياض سلامة.
سرّبت بعض وسائل الإعلام ما جاء في دعوى المخاصمة التي تقدم بها وكيل سلامة، والذي اتهم من خلالها قضاة عملوا على القضية، بارتكاب “أخطاء جسيمة وغير طبيعية”.
وقال محامي سلامة إن هيئة الاتهام الحالية، ستقوم بتنفيذ القرار الصادر عن الهيئة السابقة “وتجوز مخاصمتها استباقاً”.
ومعنى ذلك أن سلامة تقدم بدعوى المخاصمة اعتراضاً على عمل القضاة السابقين، وتذرع بأن القضاة الجدد الأعضاء في الهيئة الاتهامية، سيتخذون قرارهم بناء على التحقيقات السابقة.
هل تشكل مخاصمة الدولة سلّم النجاة لسلامة؟
يقول المحامي منير الزغبي لبي بي سي نيوز، إنه لا يجوز للقاضي الذي يواجه دعوى مخاصمة “أن يقدم على أي عمل من أعمال وظيفته يتعلق بالمدعي”.
ورأى الزغبي أن دعوى مخاصمة الدولة قُدمت من قبل فريق سلامة لرفع يد الهيئة.
وأشار الزغبي أن الدعوى التي قدمها سلامة، ليست من الحالات المتكررة في القضاء، لأنه عادة ما يعتمد هذا الإجراء نتيجة صدور حكم نهائي.
وقال لبي بي سي نيوز إن دعوى المخاصمة التي تقدم بها وكيل سلامة استباقية، أي قبل توجيه الهيئة أي اتهام له.
وقد يلجأ سلامة إلى اتخاذ هذا الإجراء ضدّ أي هيئة اتهامية ستكلف مستقبلاً النظر في قضيته.
رغم أن الزغبي أكّد أن دعوى المخاصمة، يقدمها عادة المدعى عليه ضد القاضي أو القضاة العاملين على القضية وليس ضدّ هيئة اتهامية بشكل عام.
وأمام هذا الإجراء القانوني المستجد، يوضح الزعبي أن قانون أصول المحاكمات المدنية في لبنان، لم يذكر الإجراء الذي يجب اتخاذه إن كانت الدعوى ما تزال عالقة، في حال رفع المدعي دعوى مخاصمة.
وأكدّ أنه وفقاً للقواعد العامة، إن تعذّر على قاضي النظر أو البت في قضية ما، يعود للرئيس الأول لمحكمة التمييز أن يكلّف قاضياً جديداً بدلاً منه، أو انتظار تشكيل هيئة قضاة جديدة بعد انتهاء مناوبة الهيئة الحالية.
لماذا لم يصدر القضاء مذكرة توقيف؟
توقّع مراقبون أن تصدر الهيئة الاتهامية قراراً بتوقيف رياض سلامة في حال تغيبه عن حضور الجلسة.
وتغيب سلامة عدة مرات عن حضور الجلسات، من دون صدور أي مذكرة بتوقيفه غيابياً أو حضورياً في المرات القليلة التي حضر فيها شخصياً جلسات الاستدعاء، وكان آخرها كان أمام قضاة أوروبيين في مارس/آذار هذا العام.
وأوضح المحامي منير الزغبي الأسباب التي بموجبها، يمكن لقاضي أن يصدر قراراً بالتوقيف الاحتياطي.
وقال إن التوقيف الاحتياطي لا يتعلق بنوع الجرم أو حجمه، لكن هناك حالات محددة لاتخاذ هذا الإجراء، حين يكون “التوقيف الاحتياطي الوسيلة الوحيدة للمحافظة على أدلة الإثبات أو المعالم المادية للجريمة، أو الحيلولة دون ممارسة الإكراه على الشهود، أو المجنى عليهم، أو لمنع المدعى عليه من إجراء الاتصال بشركائه في الجريمة أو المشاركين فيها أو المحرضين عليها. أو أن يكون الغرض من التوقيف حماية المدعى عليه نفسه، أو منعه من الفرار”.
ولفت الزغبي إلى أنه ينبغي على القاضي أن يستعيض عن التوقيف الاحتياطي بإجراءات أخرى، مثل فرض الإقامة الجبرية أو منع السفر.
ويعود للقاضي تقدير ما إذا كان عدم توقيف سلامة، يؤثر على مجرى التحقيق. أي تقدير ما إذا كان سلامة، على سبيل المثال، يستطيع الاتصال بشركائه للتنسيق معهم، أو إخفاء الأدلة التي تدينه، من خلال نفوذ يحتفظ به داخل المصرف المركزي.
هل هناك من يحمي رياض سلامة؟
يقول المحامي منير الزغبي إن القضاة الذي تناوبوا على الملف، لم يصدروا حتى الآن أي مذكرة توقيف بحقه، وإن مذكرات الجلب أو الإحضار لا ترقى إلى أمر بالتوقيف الاحتياطي.
ويلفت إلى أنه يجب النظر إلى الاجراءات المتخذة في قضايا مماثلة، والسؤال إن كان هناك استنسابية لدى القضاء في التعامل مع الجرائم أم لا.
فعلى سبيل المثال، يمكن توقيف شخص سرق دراجة نارية، رغم الاشتباه بارتكابه هذا الجرم دون إثباته. وتساءل ما هو الإجراء الذي يتخذ ضد شخص يشتبه بسرقته مليارات الدولارات؟
ويرى الزغبي أن المستفيدين من سياسات سلامة، جزء من المنظومة السياسية الحاكمة على مدى عقود.
ثلاثة عقود في حكم المصرف
انتهت ولاية رياض سلامة في تموز/يوليو 2023 بعد ثلاثين عاماً على تعيينه حاكم مصرف لبنان، وهي أطول ولاية لموظف في منصب حاكم المصرف في المركزي.
وعيّن سلامة حاكماً للمصرف المركزي، عام 1993 في ظلّ رئاسة رفيق الحريري للحكومة آنذاك، وجدّدت ولايته أربع مرات.
ونسب لسلامة دوره في الحفاظ على استقرار الليرة اللبنانية، بعد أن فقدت قيمتها بشكل كبير للمرة الأولى أمام الدولار، مع انتهاء الحرب الأهلية.
لكن معارضيه انتقدوا مراراً هندساته المالية، وقالوا إنها كانت في صالح المصارف الخاصة. وذكر موقع المفكرة القانونية أن 35 مصرفاً خاصاً، استفادوا من سياسات سلامة المالية.
انهارت الليرة اللبنانية أواخر العام 2019، وتراجعت قيمتها أمام الدولار بنسبة قياسية خلال أربع سنوات – من 1500 ليرة إلى 90 ألف مقابل الدولار الواحد – واتجهت الأنظار نحو دور رياض سلامة وتداعيات سياساته المالية داخل المصرف المركزي على وضع النقد.
ورغم توجيه الاتهامات له بهدر المال العام، لم يعزل من منصبه ولم ترفع الحصانة التي يتمتع بها.
وأثير الجدل حول تجديد ولايته داخلياً بين أحزاب سياسية معارضة لنهجه وأخرى مؤيدة، قبل بداية الانهيار المالي.
لكنه حظي بموافقة الحكومة على تجديد ولايته مرة أخيرة عام 2017 لمدة ست سنوات.