تتوالى الإشاراتُ من مصادر مختلفة إلى إمكان حصول تبدّلات نوعية في المقاربات الآيلة إلى تحديد خريطة الطريق الانقاذية والتي يُفترض أن ترث، بالتحديد المنهجي والعلمي، «الفشلَ» المشهود والمتكرر لمشاريع الخطط الحكومية الرامية إلى إعادة هيكلة القطاع المالي والجهاز المصرفي، كمدخلِ شَرْطي ولازم لتحديد المَخْرج السليم من الأزمات المتفاقمة التي يعانيها لبنان.
انضاج اقتراحات معدَّلة
ورغم الضبابية الكثيفة التي تثيرها المخاوف المتفشية من مجرى المواجهات العسكرية في الجنوب، وارتباطها المُحْكَم مع حرب غزّة، رصدت «الراي» ملامح انضاج اقتراحات معدَّلة في المرتكزات والمقاصد، توطئةً لصوغ مشروع متكامل يقوم على عدالة توزيع أحمال الفجوة المالية البالغة نحو 73 مليار دولار، اتساقاً مع الوزن النسبي للأطراف المعنية، أي الدولة والبنك المركزي والقطاع المصرفي، والتخفيف الى الحد الأقصى الممكن من خسائر المودعين، والحماية المطلقة لحدود معينة حتى مبلغ مئة ألف دولار بالحد الأدنى.
وفي المتابعة، لَمَس رئيس الاتحاد الدولي للمصرفيين العرب الدكتور جوزف طربيه، في مداخلةٍ له بحضور رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، الشروعَ بتحقيق خطوات ايجابية عديدة نحو تصحيح المسار. والأهمّ فيها بالنسبة للمودعين والمستثمرين، ان مجلس شورى الدولة، وهو القضاء الاداري الأعلى في لبنان، أصدر قراراً تاريخياً يلزم الدولة اللبنانية بتغطية خسائر البنك المركزي عملاً بالمادة 113 من قانون النقد والتسليف.
وهذا ما يُرسي، وفق طربيه، الأساس الصالح لإعداد خطة نهوض حقيقية تحمي الودائع وتحفظ القطاع المصرفي، وتحول دون سيطرة الاقتصاد النقدي في البلد وهو ما من شأنه أن يؤدي الى تخفيض تصنيف لبنان على صعيد مكافحة تبييض الأموال، وتعريضه للعقوبات الدولية، وعزْله عن النظام المصرفي العالمي.
مسؤولية الدولة
ويشكّل حزْم القضاء في إقرار مسؤولية الدولة عن خسائر مصرفها المركزي والأموال التي أودعتها المصارف لديه، إشارةً حاسمة برسم المستقبل إلى استمرار أهلية لبنان كبلد حامٍ للاستثمارات بحُكْم نظامه القانوني المرعي الإجراء الذي يحفظ حق المستثمرين بأموالهم. والأهمّ عدم شطب ودائع المصارف لدى «المركزي»، والتي هي في الواقع ودائع للمودعين. حيث أكد أن شطب الدولة لهذه الموجبات يتعارض مع القوانين ومع الدستور الذي يحمي الملكية الخاصة، وكذلك يتعارض مع المعاهدات الدولية التي تحمي الاستثمار.
وبالتوازي، برزت الرسالة الايجابية الموجّهة من الجهاز المصرفي الى قيادة السلطة النقدية، حيث رصدت جمعية المصارف بدورها، وعلى لسان أمينها العام الدكتور فادي خلف تبدّلاتٍ مشهودةً في مقاربة مصرف لبنان للأزمة المالية وطريقة التعامل معها منذ بداية اغسطس 2023، وهو ضمناً تاريخ تسلم الدكتور وسيم منصوري لموقع الحاكم بالانابة، أي صانع القرار في السلطة النقدية.
وفي تعدادٍ منهجي لنقاط محورية في «خريطة» التمايز التي طرأت على سياسات مصرف لبنان «ما بعد هذا التاريخ المفصلي» ومحاولة التكهن بتحدياته المستقبلية، لاحظ خلف ان المعالجات أصبحت ترتكز أكثر على نقاشٍ تقني بين المصرف المركزي والمصارف، وإن لم تتطابق، بالضرورة، وجهات النظر في عددٍ من المجالات.
كما أبدى الجهاز المصرفي ارتياحه لإقرار البنك المركزي بمبدأ الأزمة النظامية، والتي تعني ضمناً ان الدولة هي المسؤول الأول عن الأزمة، وقد بدّدت الأموال وعليها مسؤولية إعادتها. على أن يتم درس السبل المناسبة للسداد في المراحل المقبلة، نظراً لضعف إمكانات الدولة حالياً.
ايضاً، تتكرس الاقتناعات المجدّدة بإن أي حلول لا تأخذ في الاعتبار استمرارية القطاع المصرفي، غير قابلة للحياة وتقضي على أي أمل بإعادة بناء هذا القطاع وبالتالي على أي إمكان لإطلاق الاقتصاد من جديد. لكن صرخة الشك تبقى عالية، جراء الخوف المشروع وفق مقولة «لا يُصْلِحُ العطار ما أفسده الدهر».
إعادة الودائع
وفي فصل الودائع، ثمة إقرار جامعٌ بأن ما من أحد يعتقد اليوم بإمكان إعادة الودائع بشكل آني وفوري، لكن هذا لا يتعارض مع ضرورة إعادة الحقوق تدريجاً لأصحابها بكافة الطرق المتاحة، على أن تجري غربلة جداول الودائع بحسب مصدرها، وتصنيف المودعين بين مودع ومستثمر ومَن استفاد من الفوائد المرتفعة. فضلاً عن فصل الودائع الناجمة عن عملياتٍ استفاد أصحابها من الأزمة على حساب المودعين، عبر تجارة الشيكات ومنصة صيرفة.
كما يقتضي، وفق مداخلة خلف، والمرفقَة بتنويه «تقليدي» بالمسؤولية الشخصية للرأي والتحليل ودون إلزامٍ للجمعية، درس وضع المقترضين الذين أثْروا على حساب المودعين، كما والمتعاملين الذين استفادوا من عمليات الدعم والتهريب. ومن ثم تنقية ميزانيات المصارف وإظهار الفرص الاستثمارية فيها، كما والتصدي لمحاولات القضاء على القطاع.
ويندرج في باب «التنويه» الإقرار بأن التوظيفات الإلزامية في مصرف لبنان هي ملك المصارف، وبالنجاح المحقَّق في توحيد سعر الصرف من دون المساس باحتياطيت المركزي من العملات الأجنبية، وتطبيق نفس المعايير المحاسبية على ميزانيات المصارف وعلى ودائعها لدى مصرف لبنان، ما يعني تلقائياً ان زمن الكيل بمكيالين انتهى.
وتشمل الايجابيات في التغيير المشهود، القرار الصريح بعدم جواز تمويل أي عجز للدولة من المصرف المركزي خارج الأطر القانونية، مهما علا الصراخ وكَثُرت الضغوط السياسية، وعدم القبول بالعودة إلى الحلول الجزئية التي تهدف إلى كسب الوقت.
دور طبيعي
وفي الحصيلة، يَستنتج خلف أن مصرف لبنان عاد إلى لعب دوره الطبيعي المنصوص عنه في قانون النقد والتسليف، لا أكثر ولا أقل، وانه تم تصحيح ميزانيته وتوضيح جزء مهم من بنودها، بما يشمل التوقف عن استعمال امتياز مصرف لبنان بطبع الليرة لتغطية خسائره عبر اعتبارها خسائر مؤجلة. وللاستدلال، فإنه، وللمرة الأولى منذ عقود، تتسلم جمعية مصارف لبنان أرقاماً إحصائية كانت تطالب بها منذ سنوات، تُبَيِّن حقيقة الوضع القائم.
أما في توصيف التحديات المستقبلية، فقد أشار خلف إلى أولويات ضبط الاقتصاد النقدي من التفلُّت وتوجيهه نحو القطاع المصرفي، والمواءمة بين ضبط الكتلة النقدية وحاجات مَن ليست له مداخيل سوى حسابه المصرفي، وحماية السيولة المخصَّصة لصغار المودعين في الداخل من إمكانات كبار المودعين في الخارج.
وبالتالي، يقتضي حماية موجودات مصرف لبنان (ذهب وعملات) من الدعاوى القضائية في الخارج، والعمل على ضمان المصاريف التشغيلية للمصارف، بانتظار عودة القطاع إلى نشاطه الطبيعي، والتأكيد على جلوس كافة المعنيين بمشروع إعادة هيكلة المصارف على الطاولة.