في فبراير (شباط) الماضي، بدأ المسار التصاعدي للدولار الجمركي، حين تمت زيادته بمعدل عشرة أضعاف، فبعد أن كان يحتسب وفق سعر الصرف الرسمي السابق 1500 ليرة لبنانية، بات يحتسب حينذاك على 15 ألف ليرة لبنانية، وما لبث في نهاية الشهر نفسه، أن ارتفع إلى 45 ألفاً بقرار مفاجئ صادر عن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، ووزير المالية يوسف خليل بالتنسيق مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، واستمرت الخطوات المشابهة، حين أصدر مصرف لبنان تعميماً في 18 أبريل (نيسان) قضى باعتماد 60 ألف ليرة لبنانية سعراً لتحديد الدولار الجمركي، فيما يتوقع أن يتساوى الدولار الجمركي مع دولار “صيرفة” مع حلول منتصف مايو (أيار) الجاري، ليصبح 30086 ليرة لبنانية (السعر المعتمد لدولار الصيرفة في الخامس من مايو).
تلفت أوساط وزارة المالية اللبنانية أن العمل بالدولار الجمركي وفق سعر 60 ألف ليرة مستمر لغاية 12 مايو، وفي ذاك التاريخ يحدد السعر الذي سيعتمد، فقد يبقى عند المستوى ذاته، أو يرتفع بقرار يتخذ بالتنسيق بين وزارة المالية ومصرف لبنان بالتوافق مع الحكومة.
تحاول الحكومة من خلال هذا القرار زيادة مداخيلها المالية، وتشير الأوساط إلى حاجة المالية العامة للإيرادات بما فيها الدولار الجمركي والضريبة على القيمة المضافة، وتذكِّر بالتعميم الصادر عن وزارة المالية، الذي يفسح المجال أمام المواطنين دفع الرسوم والضرائب المتوجبة من دون غرامات لغاية منتصف مايو، وستقوم الوزارة بإعادة التذكير بهذا الإعفاء الإثنين في الثامن من مايو، لتنبيه الناس والتسريع من أجل الاستفادة، ولو قبل ساعات من انتهاء مفاعيل القرار.
فوضى السياسات
جاء مصطلح “الدولار الجمركي” نتيجة تلقائية لانهيار نظام تثبيت سعر الصرف الذي كان معتمداً منذ تسعينيات القرن الماضي، أي 1500 ليرة لبنانية للدولار الواحد، ويوضح د. بلال علامة، الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي، أن الرسوم الجمركية في السابق كانت تستفيد من سعر الصرف شبه الثابت والموحد، ولم تكن تأتي التشريعات على ذكر الدولار لأن القانون يلزم تحديد الرسوم والضرائب بالعملة الوطنية أي الليرة اللبنانية، ولكن مع حدوث الانهيار، ظهر الخلل بين الرسوم التي تحصلها الدولة، وسعر الصرف في السوق الحرة الذي تخطى في بعض الأحيان عتبة 100 ألف ليرة لبنانية، وساد انطباع لدى السلطة أن الرسوم التي تحصلها أصبحت لا قيمة لها، وليست ذات فائدة، مذكراً بتصريح لرئيس الحكومة الذي تحدث عن تراجع قيمة موازنة الدولة إلى ما دون المليار دولار أميركي، فيما كانت تقارب في السابق ثمانية مليارات دولار وفق سعر السوق.
يفضل علامة استخدام “ضرائب وفق سعر السوق” عند الحديث عن الدولار الجمركي الآخذ بالارتفاع منذ ستة أشهر، وكذلك الضريبة على القيمة المضافة التي كانت تعتمد سعر الصرف 1500 ليرة لبنانية، ويضع ما يتخذ من قرارات منذ 2017 ولغاية اليوم في خانة “القرارات التي تفتقد الفلسفة الاقتصادية وانعدام الرؤى فهي تأتي رد فعل على الصدمات المتتابعة، إذ تغيب الدراسات الجدية للأثر الاقتصادي، ويترافق ذلك مع استقالة الدولة من دورها في الاستثمار بالاقتصاد الوطني أو تشجيع الإنتاج الزراعي والصناعي، لا بل تستثمر بالضرائب على هذا الاقتصاد”. لذلك يعتقد أن “لبنان أمام (ارتجالية وتخبيص مالي) بسبب اتخاذ قرارات بخلفيات سياسية حيناً أو رشاوى انتخابية في حين آخر”.
يعود علامة إلى عشية إقرار سلسلة الرتب والرواتب في 2017، في حينه قدم وزير المال آنذاك علي حسن خليل كشفاً للبرلمان بأن الكلفة الإجمالية ستكون 800 مليون دولار، وفي المقابل تقوم السلطة بتحصيل إيرادات بقيمة المليار لتغطيتها، ولكن عند التطبيق اتضح أن الكلفة الحقيقية للسلسلة هو 2.7 مليار دولار أميركي، ولم تتمكن الحكومة في المقابل من تحصيل ربع ما كانت تصبو إليه، وصولاً إلى إفلاس البلد بسبب غياب المحاسبة.
أعباء شاملة
تعد الحكومة بأن زيادة الدولار الجمركي لن تمس الحاجات الأساسية للمواطن، أو المواد الغذائية، أو الأدوية، ولكن بعيداً من التقييم المتسرع، تبرز آثارها في القدرة الشرائية للمواطن اللبناني. يتوقع أن يؤثر رفع الرسم الجمركي في البنزين والمحروقات على كل القطاعات، وفي أولى الوقائع، من صباح الجمعة الخامس من مايو، بدأ يصدر جدول أسعار متحرك للمحروقات، ولكن سرعان ما يعدل بسبب تعديل الرسوم الجمركية من قبل الجمارك، ويوضح جورج البراكس، نقيب أصحاب المحطات، أن الرسم ارتفع ليصبح مليون و22 ألف ليرة عن كل 20 ليتراً، بعدما كان في السابق 253 ألف ليرة لبنانية، ويضيف كان رسم الصفيحة، 5060 ليرة، وأصبح حالياً 20440 ليرة من أجل زيادة المداخيل.
وفي سياق متصل، أدى التدرج في رفع الدولار الجمركي إلى ظاهرة الاستيراد المفرط الذي قام به كبار التجار، وتخزين السلع في المستودعات استدراكاً للرسوم المرتفعة.
استفهام دستوري
لا تسلم إجراءات السلطة من الانتقادات، فمن الناحية الدستورية يشترط الدستور اللبناني في المادة 82 فرض الضريبة وتعديلها بقانون يصدر عن مجلس النواب، في المقابل يأتي القانون رقم 132 الصادر في 1999 الذي يفوض بموجبه مجلس النواب الحكومة حق التشريع في الحقل الجمركي، إضافة إلى القانون رقم 93 الصادر في 2018 الذي منح الحكومة حق التشريع في الحقل الجمركي لمدة خمس سنوات بمراسيم تتخذ عن مجلس الوزراء، أي إن التفويض ينتهي خلال العام الجاري 2023. ولكن ما يحدث حالياً أن قرارات رفع الدولار الجمركي تصدر عن وزير المال، كما تحدد بموجب تعاميم صادرة عن حاكم مصرف لبنان.
يصف بلال علامة ما يجري بالتحايل على القوانين الذي ينطلق من اجتهادات خاصة للطبقة السياسية، وأصبح التعميم الذي يعد بمثابة قرار تنظيم إداري بقوة القانون.
القيمة المضافة ضريبة استهلاك
تعول الحكومة على زيادة مداخيلها من خلال اعتماد منصة “صيرفة” لتسعير الضريبة على القيمة المضافة، ويوضح بلال علامة أن الضريبة على القيمة المضافة هي ضريبة على الاستهلاك، وستتأثر سلباً بفعل دخولنا في مرحلة “التناقص في الاستهلاك بسبب تراجع القدرة الشرائية للمواطن إلى أقصى حد ممكن، وبدء مرحلة شح التحويلات الخارجية وانخفاض قيمتها”.
ينوه علامة إلى دخولنا “مرحلة التضخم الركودي” التي تتسم بنقص الاستهلاك، والتضخم المفرط، مما ينذر بأن رفع ضريبة القيمة المضافة بواسطة التسعير بالدولار، قد يؤدي إلى زيادة طفيفة بعائدات الضريبة، ولكن ليس بحسب التوقعات، موضحاً أن “حسابات الحكومة تعتمد أرقام الأعوام السابقة، التي ستتناقص كميتها بفعل الأوضاع الراهنة”. في المقابل، يأتي تعويل الحكومة على زيادة الاستهلاك مبنياً على فرضية قدوم مليون مغترب هذا الصيف، يقلل علامة من تأثيرات ذلك في الدورة الاقتصادية، لأن “لبنان اعتاد على استقبال المغتربين في المناسبات والأعياد، وهؤلاء معتادون على النمط الاستهلاكي في البلاد، وتأتي زيادتهم بصورة بسيطة، ولا يمكن أن يؤمنوا التوازن المالي”، لذلك يبقى التعويل دائماً على استعادة لبنان موقعه وعلاقاته مع السياح العرب والخليجيين.
يقول علامة “السائح يشغل كل القطاعات، فهو يحتاج إلى الفندق، والمطعم، والقيام بأنشطة ترفيهية وسياحية، والإنفاق على الإنترنت، والاتصالات، والسيارات والنقل، وكل شيء”، أما “اللبناني المغترب على سبيل المثال يأتي إلى منزل العائلة، ولا يخرج لتناول الطعام إلا في مناسبات استثنائية”.